كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل مَن أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم مجلس النوّاب (البرلمان) وفعل به الأفاعيل: مثّل بشُرطته تمثيلاً فبقر بطوناً وسمل عيوناً وقطع أطرافاً، وقد بقي ذلك كله كما بقيَت الدماء على جدران البناء، الذي هو آية في فنّ العمران فجعلتموه آية في الخسّة والعدوان، فتعالَ ترَ الدماء على جدرانه المصدّعة وأبوابه المخلّعة. لقد وجدوا صندوق البرلمان الذي كان فيه المال، وجدوه بعد ذلك فارغاً في دار القيادة الفرنسية، وهم (طبعاً) لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه!
جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون حيث لا يملك من فيها دفعاً ولا منعاً، فصيّر سجونهم مقابر لهم. والمستشفى العسكري يا جنرال، جعله جيشك قلعة فيها المدافع، ومنه أحرق سوق صاروجا الذي كان على عهد الأتراك حيّ البشوات والبهوات وحيّ كبار الموظفين وكانت فيه الدور الأنيقة الغالية، فأكل هذا الحريق ثلاثاً وتسعين داراً. ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشّاشات تُطلِقها بأيديها الناعمات الراهبات المتبتّلات ذوات الرحمة المسالمات!
نسخة التوراة التي سُرقت من سنوات (وهي أقدم نسخة في العالَم) وجرَت لها تلك المحاكمة المشهورة وقُضي على طائفة من الأظناء الأبرياء بأشد العقوبات، هل تدري يا جنرال أين وُجدت؟ وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كُبِست داره بعد الحادث، ويُقدَّر ثمنها (في تلك الأيام أي سنة 1940) بنصف مليون فرنك!

الصفحة 108