كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

النوافذ، وخيّم السكوت على الجميع واشتدّ قلقهم. ولم يكن داخل السرايا إلاّ سبعة من رجال الدرك (أي الشرطة) سلاحهم الوحيد البنادق، فأمر نائب الرئيس بإغلاق أبواب السرايا ووضع الكراسي والمناضد خلفها.
وأصبح الموقف حرجاً للغاية، فرئيس الوزراء وزملاؤه غير قادرين على الاتصال بأحد وقوة الحرس غير كافية للدفاع عن أي هجوم على السرايا، وكان ضجيج الرصاص يملأ أرجاء المدينة. وبهبوط الظلام تضاعف الرعب، وكان الجميع يتوجّسون خيفة من المصير المماثل لمصير حرس المجلس إذا عمد الجنود الإفرنسيون إلى الهجوم على السرايا واحتلالها والتخلص نهائياً من أعضاء الحكومة وما يقرب من ثلاثين نائباً من نواب المجلس. ودبّ اليأس إلى القلوب، وعكف الجميع على الصلوات والأدعية حيث لم يعُد ثمة ملجأ إلاّ الله لإنقاذنا من هذا المأزق وإخراجنا من السرايا.
ثم بيّن خالد بك كيف خرجوا انسلالاً واحداً بعد واحد من الباب الجانبي ومشوا على أيديهم وأرجلهم في ظلّ حاجز نهر بردى حتى دخلوا البَحْصة، ومنها انتقلوا إلى دار خالد العظم في سوق صاروجا. إلى أن قال: ومدّ السيد مردم يده إلى الهاتف ليخبر أهله بأنه سليم وأنه في داري، فعرف الإفرنسيون الذين يستَرِقون السمع الملجأ الذي لجأت إليه الحكومة والنوّاب فصوّبوا مدافعهم علينا، فتساقطت القذائف على الدور المجاورة وانهارت على ساكنيها الآمنين ... ثم بدأ الإفرنسيون بإطلاق القذائف المحرقة على الدور الكائنة في مدخل سوق صاروجا، وأكثرها من الدور القديمة المبنيّة بالخشب واللبِن.

الصفحة 112