كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

يصف حالهم ويصوّر آلامهم وآمالهم ومتاعبهم ومطالبهم، فهو الطبيب لأوجاعهم، إن لم يداوِها بالعقاقير داواها بحسن المواساة وجميل القول. ومن أوجاع المجتمع ما يكون مثل القولنج، حبة رمل تعترض في الدقيق من مجرى البول، في الحالب، فيكون منها آلام كآلام الأم عند الطلق. لا يستطيع صاحبها أن يستقرّ على حال فهو يتقلّب ويصرخ، فإذا زالت عن موضعها زال الألم دفعة واحدة كما جاء دفعة واحدة. ومن الأوجاع ما هو كالسرطان، لا يذهب حتى تذهب الحياة. لذلك يكتب الصحفي المقالة تتخاطفها أيدي القُرّاء، ومن لم يصل إليها دفع عشرة أضعاف ثمن الجريدة ليطّلع عليها، فإذا مرّ اليوم ونُسي الحادث لم تجد من يباليها أو يفكّر فيها.
كتبت في كل موضوع شغل الناس: في الدين وفي الإصلاح وفي السياسة وفي الاجتماع، فإذا هدأت الحياة عندنا قليلاً (وقلّما تهدأ) كتبت في الأدب. وكذلك كنت في دراستي وفي مطالعتي، أقرأ كل شيء ولكن للأدب أكثر أيامي وجلّ اهتمامي، قرأت من كتب الأدب العربي القديم كل الذي وصلَت إليه يدي. قلت لكم من قبل إنني سردت الأغاني سرداً وأنا في أوائل المدرسة المتوسطة، قرأته مرة وحدي ومرة مع رفيق العمر سعيد الأفغاني، الذي كان أبوه الرجل العابد الصالح من كشمير لا يكاد يُحسِن العربية وصار هو اليوم المرجع في علوم العربية والحُجّة فيها، فهو الآن يدرّس في جامعة الملك سعود وما أعرف له في علمه بالنحو نظيراً.
ثم قرأت مئات من المجلّدات، وكنت أقتصر أبداً على الأدب

الصفحة 15