كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

وعفوكم إن لم أسِرْ بكم من حيث سرت وعرضتُ ذكرياتي مختلطة أنتقل فيها من مدينة إلى مدينة، فسبب ذلك أنها قد اختلطَت في ذهني فصارت كلها صورة واحدة جميلة. ولعلّ جمالها في تنوّعها، وقديماً قالوا: «والضدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ». ألا تطربون للتناسق الموسيقي (الهارموني) حين يغنّي معاً رجال بأصواتهم الضخمة وصِبْية صغار بحناجرهم الحادّة، فيختلط الصوتان فيجيء منهما صوت واحد مطرب معجِب؟ وإن كانت مساكن جاكرتا (كما سيمرّ عليكم) صغيرة ملوّنة كلعب الأطفال، وكانت حدائقها أكثر وأشجارها أعجب.
ثم رأيت في طريق دهلي بوابة ضخمة جداً من الحجر قائمة في وسط ساحة تتفرع منها شوارع كثيرة، عليها نقوش وكتابات إنكليزية وأمامها تمثال جورج الخامس، الذي حسب أنه سيبقى وتبقى الهند لقومه، فذهب كما يذهب كل حيّ وخرجَت الهند من أيدي أمّته. وكان التمثال وسط بركة هائلة عجيبة الصنع. ورأيت في بومبي (وسيأتي ذكر ذلك) بوّابة أخرى أفخم وأقدم، أرادوا أن تكون باب الهند الرمزي.
ولمّا جزنا البوّابة ظهرَت دهلي الجديدة. وهي مدينة مدوّرة، لا أعرف لها شبيهاً إلاّ بغداد عندما بناها المنصور. في وسطها (في وسط دهلي) ميدان كالدائرة الكاملة حوله العمارات الكبيرة، تنصبّ فيها شوارع مستقيمة ثم تخرج منه كأنها أشعّة النجم، ووراء العمارات دائرة أخرى أوسع منها، وتتوالى الدوائر تقطعها هذه الشوارع المستقيمة.

الصفحة 278