كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

وإلى جنب دهلي الجديدة (نيو دلهي) دهلي القديمة، يحيط بها سور ضخم له أبواب، لا تزال باقية أبوابه عليها أسماءُ مَن شادها من ملوك المسلمين. وبين المدينتين فضاء واسع أشبه بالمرج الأخضر في دمشق، بل هو أوسع وأكبر، يلعب فيه الشبّان ويتكوّم على أرضه الرجال والنساء والأسر كلّ مساء. فإذا جاوزت هذا الفضاء الذي تشقّه الشوارع رأيت أمامك السور القديم وأبوابه الباقية، ولكن المدينة خرجَت منه كما خرجَت المدن من كل سور كان يطوّقها، وامتدّت حتى صار السور وسط الشوارع والعمارات كما هي الحال في دمشق. ولكن دمشق لم يقف التجديد عند حدودها القديمة بل وصل إلى أقدم حارة فيها، وليته لم يصل، وليتهم حفظوا قديمها كما صنعت فاس وكما صنعت بعض المدن في سويسرا، تحفظ القديم على حاله ليكون تاريخاً ناطقاً، وتجدّد ما شاءت من حوله.
ودهلي التي تعيش وسط السور رأيناها لمّا زرناها كما كانت منذ خمسمئة سنة. وهذا سِرّ إقبال السياح عليها وإعجابهم بها، فالسائح الغربي لا تهمّه الشوارع الكبيرة والعمارات ومظاهر الحياة الأوربية، فإن عنده الكثير منها، ولكن يهمه ما لا يجد مثله في بلاده. وما كنت أدرك هذه الحقيقة حتى سِحت في مدن آسيا. لذلك أحببت دهلي القديمة وأمضيت عشرة أيام أجول في أسواقها وطرقها، وأعجب بما وجدت فيها. وما الذي وجدته؟
أسواقاً ضيقة لا أوّل لها ولا آخر، كأسواق دمشق حول الجامع الأموي، وأسواق بغداد، وأسواق مكّة والمدينة التي رأيتها من أكثر من نصف قرن. تقوم على جوانب هذه الأسواق الدكاكين

الصفحة 279