كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

كلمة الله. الأول غرس البذرة، والثاني تعهّد النبتة، والثالث رعى الدَّوْحة؛ أقاموا لهذه المملكة سوراً من جماجم شهدائهم وسقوها من دماء أبطالهم، فظلّلَت فروعُها وأغصانها الهندَ كلّها.
الهند التي كانت كلها لنا، فلم يبقَ في أيدينا منها إلاّ آثارنا: مساجد -كما قلت لكم- قد عطلت من شعائرها، ومآذن قد فقدت مؤذّنيها، وقلاع غاب عنها جنودها، وقصور فارقها أصحابها، ورايات قد سكنت المتاحف لم تعُد ترفرف في سمائها، وسيوف قد صدئت في أغمادها لم يبقَ لها منّا مَن يسلّها.
هذه هي الأندلس الكبرى، وهذا هو الفردوس الإسلامي المفقود.
* * *
فإذا اختصرتُ الطريق فجئتُ بحديثها في غير موعده فإنما فعلت ذلك جواباً على الرسالة التي افتتحت بالإشارة إليها هذه الحلقة من ذكرياتي. إن صاحب الرسالة (مثل أكثر المسلمين اليوم) لا يعرفون من تاريخ الإسلام في الهند إلاّ شيئاً قليلاً لا يكاد يُعَدّ شيئاً. إن ثلث التاريخ الإسلامي في الهند. لقد أقام المسلمون في الهند دولاً وأنشؤوا فيها حضارة، وفتحوا فيها مدارس وبنوا مساجد، وكانت مساجدهم ومدارسهم منارات تدلّ السفن الضالّة على الشاطئ الآمن لتعصمها من الأمواج العاتية وتخلّصها من المخاطر والمهالك.
إن اليوم هو ابن الأمس وهو أبو الغد، فمَن كان له تاريخ

الصفحة 284