كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

الأذى وفي الضرّ، فألقوا بذوره في أرضنا، فلما نبت ملأ بلدنا وأصاب أذى شوكه أبناءنا وبناتنا؛ فكان هذا الاستعمار الجديد شراً من الاستعمار القديم، لأن ذلك يمثّله قوم ليسوا منّا ولا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا، وهذا يقوم عليه ويدعمه ويحرسه أبناؤنا.
لذلك تجدون في كثير من البلدان أن الذي تمّ بعد جلاء جيوش المستعمرين أشنعُ وأفظع وأبشع ممّا كان قبل لمّا كانوا هم الحاكمين. ولست أبرّئهم ولا أدافع عنهم، وكيف وهم الذين غرسوا في أرضنا نبتة الفساد، وكيف وفي مدارسهم وعلى مناهجهم سيّروا أبناءنا وبناتنا في هذا الطريق؟
* * *
ورجعت إلى عددَي «الرسالة» أقرأ من جديد مقالتَيّ المنشورتين فيها من أربعين سنة وأربعين يوماً، فأحسّ كأني أدرت إبرة المسجّل فظهر أمامي فِلْم كامل فيه فصول كثيرة وفي فصوله تاريخ طويل: مسلسل كله مآسٍ وفواجع وبطولات وتضحيات، بدأ يوم دفنّا استقلالنا الوليد في وادي ميسلون ورجعنا كما يرجع الأب الثاكل من جنازة ابنه الوحيد وقد ذهب من يديه كل شيء.
ولكنا ما قعدنا، ما استلقينا على كراسينا، ولا هجعنا في سُرُرنا فنمنا نحلم بالجلاء، ثم صحونا فإذا الحلم قد صار حقيقة والأماني غدت وقائع ... لا، ولكنْ جالَدْنا وجاهدنا، على ضعفنا وقلّتنا وقوّة عدوّنا وكثرة جنده ووفرة عتاده. رأينا أياماً سوداً وليالي طوالاً لم يكتحل فيها جَفنٌ برقاد، وصبرنا على ما لا تصبر على

الصفحة 292