كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

المدفع: قوانين ينقض بعضها بعضاً وتلعن أواخرها الأوالي (أي الأوائل)، ولا يحصيها عالِم ولا جاهل: "إن المفوض بناء وبناء ... يقرّر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادّة 18 من القرار 1105 ل/ر ... " فلا يعرف جِنّي ولا إنسي ما هذه الفقرة ولا ما هذه المادّة ولا ما هذا القرار! لقد ذهب وأورثنا عشرة آلاف قرار مثل هذا. ذلك هو التشريع الفرنسي الغربي الذي يحسبه القردة المقلّدون أحسن من شرع ربنا، لأن عليه «الدمغة» الأوربّية.
اليوم يوم الجلاء.
اليوم يبكي رجال منّا كانوا يأكلون الطيّبات وينامون على ريش النعام من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب ويأكلون الخبز اليابس. اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين. اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلاّت «الاستخبارات» أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالجِراء (جمع جرو) في المزبلة بعدما مات الكلب.
هؤلاء يبكون، ولكن الشعب كله يضحك اليوم وتضحك معه الدنيا. اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام ويضحك الليل بالأضواء والمصابيح. اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تُمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكّرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان.
(إلى أن قلت): لقد ضاع حلمك يا غورو وتبدّد، وخابت

الصفحة 295