كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

أمانيك يا ديغول، وحقّق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة شهيد ميسلون. وسيحقّق الله أماني سعد في مصر، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعمر المختار في طرابلس، وورثة عبد القادر في الجزائر، وجناح في الهند ... ولِمَ لا؟ وأهل سوريا التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلاّ قليلاً عن سُكّان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم أقلّ من مسلمي الهند.
فتيهي يا دمشق واعتزّي، فلقد كنت عاصمة العرب في أوّل الدهر حين أنشئ فيك المُلك الضخم وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش بني أميّة في ظلّ راية الإسلام على ثراك، فطاولَت فروعُه النجمَ وأظلّت المشرق والمغرب وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمناً، وعدتِ اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، وكنت أول بلد عربي جلا عنه الأجنبي بعد أن غصب أرضه واستبدّ بحكمها، وأوّل بلد عربي أبطل الامتيازات الأجنبية التي كانت وصمة عار وشارة ذلّ وصَغار (والتي لا يعرف أكثر القُرّاء اليوم ما هي)، وأوّل بلد عربي ألغى الألقاب التي لم يعرفها العرب، إذ كان أصغر واحد فيهم ينادي عُمَرَ باسمه (ياعمر) وعُمَر يحكم إحدى عشرة دولة من دول هذه الأيام!
في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون متحدّرة في درك الماضي مسرعة إلى هوّة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تُنسى، مُشرِقة لا تغيب.

الصفحة 296