كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

يجرح ولا يداوي، فليطمئنّوا فإنني أريد اليوم أن أثني على الفرنسيين؛ لا لأنهم أحسنوا إلينا، ولا لأنهم عدلوا فينا ولم يغلبونا ظلماً على بلادنا ولم يستبدّوا بغير دليل فينا، بل لأن ما رأيناه بعدهم هوّن علينا ما قاسيناه منهم. إن العمى إن جاء بعد العَوَر جعل تصوّر العوَر نعمة، والمصيبة الكبيرة تهوّن ما كان قبلها من المصائب الصغار.
على أن هذا الذي رأيناه بعدهم هو ثمرة غرسهم الذين غرسوه في نفوس أبنائنا، هو النبت الشائك السامّ الذي نثروا بذوره في أرضنا.
إن الذي أقوله الآن بعد أربعين سنة قلته في يومه وكتبته وأعلنته. وقد كانت الصحف طليقة لا يقيّدها إلاّ قيد القانون ولا يسيطر عليها إلاّ قضاء القاضي، وكانت الأقلام حرّة تجول وتصول حيث تشاء كما تشاء، فكتبت في جرائد الشام، وكان أخي الأكبر وأستاذي وصديقي الأستاذ الزيات يفتح لي في «الرسالة» الواسعَ من أبوابها ويُلحِقني (وإن لم أكُن أستحقّ) بالكبار من كُتّابها، فكتبت فيها غداة يوم الجلاء مقالة كان عنوانها «إبراهيم هَنانو قال لي».
وإبراهيم هَنانو هو الزعيم الوطني الذي لم تَعْلق باسمه ريبة ولم تخالط سيرتَه البيضاء بقعة سوداء. كان أحد الكبار من زعماء الشام، وكان أول من أعلن الثورة على الفرنسيين بعد ميسلون، فأقام دولة صغيرة لم تقوَ على محاربة الباطل أيام جولته فقُضي عليها. وإن كانت جولة الباطل لا تستمرّ وكانت العاقبة للحقّ وأهله.

الصفحة 303