كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

تحمل الجبال، فلا تضيّعوا هذه العزائم ولا تُذهِبوا هذه الهمم، ولا تشغلكم لذّات نفوسكم عن حماية استقلالكم، فمَن نام عن غنمه أكلَته الذئاب. إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقّوها بالشكر والطاعة واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تهلك وتبيد.
إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته، فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد. وكذلك تفعل الأمم الحيّة اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، وما العهد عنها ببعيد؟ لقد كان نصفها في الكنيسة. فلماذا لا يكون احتفاؤنا بالجلاء إلاّ اختلاطاً وتكشّفاً وغناء ورقصاً، كأنه لم ينزل علينا كتاب ولم يُبعَث فينا نبيّ ولم يكمل لنا دين؟
إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنّا وترك فينا قنابل تتفجّر كل يوم، فتدمّر علينا أخلاقنا وأوطاننا واستقلالنا. إن كلّ عورة مكشوفة وكلّ فسوق ظاهر قنبلة أشدّ فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفى ضررها إلاّ على أحمق.
فيا أيها الناس، لقد جلَت جيوشُ العدوّ عن أرضكم فأَجْلُوا من بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم.
وذلك هو الجلاء الحقّ.
* * *

الصفحة 310