كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

وازداد الانحدار وتتالت المصائب، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلاّ عليها، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقوا فينا قانون الشيطان، قانون إبليس. وأوّلُ مادّة في هذا القانون كما تعرفون: «ينزع عنهما لباسَهما ليريَهما سوآتهما».
فبعد أن كانت النصرانيات واليهوديات يتّخذن الملاءات، وبعد أن كانت دمشق تُغلِق حوانيتها وتخرج المظاهرات فيها لأن وكيلة ثانوية البنات جاءت سافرة عن وجهها، وصلَت الطالبات إلى ما رأينا من التكشف والاختلاط وتلك المنكَرات.
إن أقوى الطاقات في الدنيا ما يسمونه «ردّ فعل»؛ فأنت حين تكبس بيدك على كفّة الميزان لا يظهر الأثر في الوسط وإنما يظهر في الكفّة المقابلة. هذا الانطلاق وراء اللذّات وهذا التحلل من قيود الدين والأخلاق دفع جماعة من الشباب من العامّة ومن الطلاب إلى إنكار هذا المنكَر، ولكنهم لم يرجعوا إلى مشورة أهل العلم ولم يقفوا عند آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وحسبوها فوضى يصنع كلٌّ ما يشاء ما دام يريد بينه وبين نفسه الخير، فانطلقوا يتعرّضون في الطرق للسافرات المتكشّفات، وهجموا مرة على سينما في وسط البلد ليس فيها إلاّ نساء (لأن دور السينما يومئذ كانت عندها بقيّة من حياء، فهي تخصّص أياماً للنساء وأياماً للرجال)، دخلوا عليهن فروّعوهن، فأعطوا بذلك أعداءنا وأعداء ديننا حُجّة علينا. ولذلك قالت العرب في أمثالها: «عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل».

الصفحة 311