كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

ونحن إذ ننتقد شيئاً نبيّن أضراره، فبيّنوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به ولو حملنا معه شيئاً من الضرر. ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شرّ محض، وأن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حُرّما.
إنه لا بدّ في كل مناظرة من مبادئ يتّفق عليها الطرفان ليعودا إليها ويرتكزا عليها، وما المنطق إلاّ ردّ الفروع إلى هذه الأصول. فإذا كان المتناظران مختلفَين في كلّ شيء، يرى هذا أن العفاف نافع فيقول الآخر بل هو ضارّ، ويدّعي هذا أن اتّباع الدين واجب فيقول الآخر إنه ممنوع، ويرى هذا العمل على منع الفجور ويرى ذاك العمل على نشر الفجور، فكيف يمكن أن يكون بينهما كلام؟
فلنتّفق أولاً على الأصول: هل العفاف وقَصْرُ الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم هو شرّ؟ هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم هو شرّ؟ هل مراقبة الله وخوفه وتمسّك كل امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟
هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها. وإنه ليكون غروراً مني وازدراء للخصوم وللقُرّاء إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شراً، فحاولت إقامة البراهين على أنها خير، وأتعبت نفسي والقُرّاء في إثبات هذا الأمر الذي أظنّه ثابتاً عند العقلاء جميعاً. وإني أؤجّل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.

الصفحة 327