كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

نتقدّم خطوتين فيؤخّروننا بعدهما أربعاً. نسهر الليل نضع بأيدينا حجراً على حجر لنقيم الجدار، فإذا طلع النهار جاء مَن يحمل المعاول الكبار ليهدم ما بنينا. وقديماً قالوا:
متى يَبلغُ البُنيانُ يوماً تمامَه ... إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُك يَهدِمُ؟
هذا إذا كان الهادم واحداً، ولكننا كنّا أمام مئات. لا يهدمون بأيديهم كما نبني بأيدينا، ولكنهم يهدمون بالمعاول، بل بالبارود والقنابل.
وكلّما مرّ علينا يومٌ بكينا فيه منه جاء بعده غدٌ بكينا فيه عليه؛ كالذي كان مع اليهود وأنصار اليهود في فلسطين: نرفض الأمر في الحيف علينا والمضرّة بنا، ثم يأتي بعده ما هو أشدّ ضرراً وأنكى فينا أثراً فنتمنى لو كان الأول قد دام!
حتى إذا كانت الوحدة مع مصر انهدم السدّ فبلغ السيل الزُّبى (¬1) وجاوز الحزام الطبِيّين (¬2)، وبلعنا السكّين على الحدّين، فكادت تضيع العقيدة كلها في غمرة الدعوة الرعناء إلى الاشتراكية. وما هذه الدعوة إلاّ قشرة تُغطّى بها الشيوعية، وما الشيوعية إلاّ أخت الصهيونية، اللون مختلف ولكن النسَب واحد. أما رأيتم أختين من أب واحد، بيضاء وسوداء، لأن الأمهات مختلفات؟
ودأبنا على مراجعة الحُكّام في الشام، حتى إننا ذهبنا مرة
¬__________
(¬1) الزّبى جمع زُبْية، وهي الحفرة تُحفَر في الجبل لصيد الوحوش.
(¬2) و «بلغ الحزام الطبيين» أي أن حزام الدابة زاح عن بطنها فتعرّض راكبها للسقوط.

الصفحة 365