كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

قلت فيها (¬1):
أكتب هذه الكلمة وأنا مريض في المَصِيف في مضايا. لقد هبط معي الضغط وضَعُف مني الجسم وانقطعتُ عن عمل اليد وعمل الدماغ، ولذلك أخللت بعهدي مع «الرسالة». وكان العهد أن أكتب للرسالة مرتين في الشهر. ولكن أخبار مصر (ومن قبلها أخبار إيران) تطرد المرض وتُنهِض الجسد، وتهزّ من الحماسة وتُرقص الحجر، فكيف أنام اليوم واليوم عزّت بالإسلام العرب والعجم؟ واليوم استكمل الشرق يقظته إلاّ بقايا في عينيه من الكرى وأقسم ألاّ ينام؟ واليوم أحسّ كل مسلم أن الأمّة التي يكون فيها من زعماء الدين أمثال حسن البنا والكاشاني، ومن زعماء الدنيا محمد نجيب ومصدّق، لم تفقد عزّتها ولم تدفن أمجادها في قبور تاريخها، ثم تسير بلا عزة ولا مجد. بل إن لها من حاضرها أياماً غُرّاً محجّلات لا يضرّ مَن رآها ألاّ يكون رأى مَواضي الأيام.
لقد تتالت علينا الأفراح وتتابعَت البشائر حتى ما تستطيع أن تحتملها أعصابنا. إننا نعدو عَدْواً في طريق الظفر، لا نقدر أن نقف ساعة لنستريح ونلتقط أنفاسنا: في إيران شعب هبّ على الإنكليز هبّة الرجل الواحد، يحمل معه أكفانه ليثبت للدنيا أن الكفن في يد المستميت أمضى من المدفع في يد من يحبّ الحياة ويكره الموت، وأن الرغبة الصادقة في الموت هي أقصر طريق إلى الحياة، وأن الشعب إذا استمات لا تغلبه قوة في الدنيا.
وهل يمكن أن يُباد شعب فلا يبقى له أثر؟ هل تستطيع قوى
¬__________
(¬1) انظر مقالة «ثورة مصر» في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).

الصفحة 368