كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

إني لأتمنى الآن أن لا أكون قد كتبت هذه المقالة، وأحمد الله أن ألهمني أن لا أضع اسمي عليها، وإن عرف الناس يومئذ واعترفت أنا الآن أنها لي.
لقد رأينا بعدها ما جعلَنا نستسهل ما كان قبلها. والسياسة لها ظاهر وباطن، وربما كان ظاهرها غير باطنها، وربما كان ما عرفه الناس عنها يخالف حقيقتها التي كانت عليها: فالخاصّة الذين يصفون أحداثها أو الذين يكونون قريباً منهم يعرفونها حقّ معرفتها، أما العامّة فلا يصل إليهم من خبرها إلاّ ما أراد الخاصة أن يعرفوه عنها. وكم من هزيمة ظنّوها نصراً، وكم طيّب حسبوه خبيثاً وسيّئ صُوّر لهم شيئاً حسناً. وأنا واحد من عامّة الناس، لا أعرف من الأمور إلاّ ما أرادوا أن يعرفه الناس ولا أروي إلاّ ما عرفته، وإن كان لي -بحمد الله- فكر أعلو به عن طبقة العوامّ والرعاع، فأناقش الأمر بمقدار ما يستطيع عقلي مناقشته، فأشكّ في بعض الأمر وأردّ بعضه ظناً، وأرفض بعضه يقيناً لأن الوضع ظاهر فيه والكذب بادٍ عليه.
إن المؤرّخ ينظر إلى الأحداث نظرة شاملة كاملة كمَن يرى المدينة من الطيارة، ففي نظرته سعة وشمول، ولكن ليس فيها دقّة وتفصيل. أمّا الأديب فإنه يصف ما رأى وصفاً مفصّلاً، ولكن ليس شاملاً.
وأنا متّهَم بأني خصم الوحدة، للحديث الذي أذعته غداة الانفصال وتناقلَته الصحف والإذاعات، حتى لقد سمعته أنا مُذاعاً مكرّراً أكثر من سبع مرات. وأنا وأهل بلدي بريئون من هذه التهمة.

الصفحة 371