كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

أذكرهم الآن، ولعلّي نسيت غيرهم مِمّن كانوا معنا.
فلما وصلنا مصر (وإذا قلنا مصر فإنما نعني القاهرة، كما نقول في سوريا «الشام» ونقصد بها دمشق) جلسوا في إدارة شركة الطيران في ميدان الأوبرا، حيث الصنم المقام لإبراهيم باشا الذي خرب «الدرعيّة» وزرع بذور الفساد في الشام، وذهبت مع أحد الإخوان نختار فندقاً مناسباً. فلما عدنا لم نجد المشايخ ولكن وجدنا بطاقة فيها أن السيد مكي ضاق صدره بالانتظار، فذهبوا إلى فندق قريب في منعطف وراء الميدان.
وأنا أعرف مصر من سنة 1928، أمشي فيها وأنا مغمض العينين لا يشتبه عليّ شيء من شوارعها وحاراتها، وأحسب أني جزت ميدان الأوبرا مرة فما أبصرت هذا المنعطف ولا علمت أن فيه فندقاً، فلما بلغناه إذا هو فندق عتيق في حارة ضيقة لا يصلح لنزولنا.
وما هذا هو العجيب، ولكن العجيب أني لمّا وصلت إلى الفندق وجدت الشيخ الميداني قاعداً على طرف السرير، وأمامه ضابط على كتفه نجوم جاثم على ركبتيه، ورأسه على ركبة الشيخ وهو ينشج ويبكي. فلم أعرف من هو ولا ما الذي أبكاه، ولم أدرِ من أين جاء بهذه الدموع، ولعلّه شمّ بصلاً قبل أن يدخل الفندق، ولعلّ هذا من فصول «الرواية»! كيف وصل هذا الضابط إلينا ومن الذي دلّه علينا؟ ومن أين عرف أن الشيخ أبا الخير معنا وأننا نزلنا ها هنا؟
ثم علمت أن «القوم» لا يدَعون قادماً حتى يُرسلوا إليه من

الصفحة 379