كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

يكشف سرّه ويعرف خبره، فمن الناس من يستميلونه بتسهيل طرق الملذّات وإرواء الشهوات، ومنهم من يُغوُونه بالعطايا والهدايا، ومنهم من يكون من أهل السياسة فيسلكون به مسالك الكياسة والأطماع بالرياسة، ومنهم ومنهم ... وكل هؤلاء ما نحن منهم ولا شغل لنا معهم، فكيف يعرفون خبرنا؟
إن عندهم مُخبِرين من كلّ لون من ألوان الناس، فلما علموا بأننا مشايخ وأننا جئنا نزور مصر اختاروا مِمّن يثقون به ضابطاً أهله من المتصوّفة، من الذين يزورون الشام ويعرفون مشايخها وممّن لهم صلة بشيخنا الميداني، فأرسلوه إلينا.
لمّا رأيت الفندق لم يعجبني، وتركوا إليّ أمر اختيار غيره. وكنّا قد انتقينا فندقاً صالحاً في الشارع الذي كان يُدعى شارع فؤاد الأول (ولست أعرف الآن بماذا يُدعى) فذهبنا إليه والضابط معنا. فلما كان من الغد جاءنا مبكّراً، وقد نزع بزّته العسكرية وأزاح عن كتفيه نجومها ولبس ما يلبس جمهور الناس وبقي معنا. فقلت له: كيف تدع عملك لتبقى معنا؟ فقال: إذا جاء الشيخ لم أبالِ بعمل ولا بمنصب ولا بوظيفة لأغتنم صحبته.
ونظر بعضنا في وجوه بعض وعرفنا أنه كاذب. ثم بحثنا عن أمره فعلمنا أن له مرتبة عالية في دوائر الاستخبارات، وأنه إنما أُرسِلَ لتحسّس خبرنا والتجسّس علينا. فلما أمسى المساء بقي معنا وطلب غرفة ينام فيها لئلاّ يفارقنا، وأعجب ما في الأمر أنه نزل في الفندق يأكل ويشرب على حسابنا!
فأقمنا مَن يُخبِر كلّ زائر لنا بحقيقة أمره قبل أن يصل إلينا،

الصفحة 380