كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

فإذا دخل زائر ولم يعلم قلت له مازحاً: أترى هذا الرجل؟ إياك أن تنطق بكلمة. إنه يشنقك، إنه كولونيل، ضابط كبير له نفوذ عظيم، فإياك إياك أن يسبق لسانك إلى ما لا يريد. وربما قلت لغيره: «ما ينطق من قول إلاّ لديه رقيب عتيد» وأشرت إليه.
فأضعنا عليه بذلك ما أُرسِلَ من أجله، فما استفاد منّا فائدة ولا استطاع أن يعرف عنّا خبراً. وكنّا إذا أردنا أن نتحدّث بشيء تركناه وذهبنا إلى غرفة واحد منّا، وما كان له أن يجرؤ على أن يتبعنا.
* * *
وجعلَت الأيام تمرّ ونحن في الفندق نأكل ونشرب وننام ونفيق، وندفع ثمن الطعام والمنام، ولا نستطيع أن نُنجِز ممّا جئنا له شيئاً، فـ «الريّس» لا نقدر أن نلقاه، والوزير يفرّ منّا ويتوارى عنّا، وكلّ ما صنعناه أن قابلنا وزير المعارف الإقليمي. ونحن نعلم أن عمله محصور في الإقليم الجنوبي، أي في مصر، وأنه لا شأن له بإقليمنا، أي بشامنا.
وإذا كان الرجل قد عاد قديماً من الحيرة بِخُفَّي الإسكافي حُنَين، فنحن لم نعُد بشيء ولا بالخُفّين. وكان حَزُّ ذلك في نفوسنا عميقاً وأثرُه على إخواننا في الشام لمّا عدنا وخبّرناهم به سيئاً.
وسمعنا أن وزير المعارف كمال الدين حسين سيقدم الشام. وهو -كما نمي إلينا- من أقرب هؤلاء الضبّاط إلى الدين، هو وحسين الشافعي. وسمعنا أن بين جوانحه قلباً مؤمناً، إذا ذُكّر

الصفحة 381