كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

ففكّروا: مَن الذي يعلمهن هذه الرقصات؟ هل يعلّمها أستاذ الدين، أم مدرس العربية، أم معلّم الحساب؟ إنه شيء لا يعرفه إلاّ أصحاب الملهيات والحانات. هل تتصوّرون أن يأتي القائمون على تربية بناتكم ببعض هؤلاء الفُسّاق ليُلبِسوهن لباس الرقص ويعلّموهن هذه الرقصات؟! هذا والله الذي كان. تحولَت المدارس إلى مراقص، وصارت الطالبات يصنعن صنيع الأرتستات، أي الساقطات الفاسدات!
ثم جاؤوا بما كنا نعجز أن نتخيله تخيّلاً فأصبحنا نراه واقعاً ظاهراً، فأجبروا الأب على أن يبعث ببنته لتنام خارج بيتها شهراً كاملاً في هذه المعسكرات، في معسكر التلّ، تحت إشراف الرجال الأجانب. ولم يكفِهم ذلك حتى عرضوا لنا في الرائي (التلفزيون) صور بناتنا وهنّ يرقصن لهم في ليالي المعسكر.
وأنا لا أزال أتساءل: لماذا عرضوا ذلك في الرائي؟ لماذا؟ إنهم وصلوا إلى ما يريدون وأخذوا بناتنا رغماً عنّا لينَمْن شهراً بعيدات عن بيوتنا، فحقّقوا ما كانوا يتخيلونه ووصلوا إلى ما كانوا يريدونه. فلماذا عرضوهن علينا وهُنّ يرقصن لهم في تلك الليالي؟ هل كان ذلك عن غفلة منهم؟ هل كان ذلك مبالغة في إذلالنا، يقولون لنا: انظروا يا من تدّعون الشرف والنخوة كيف جعلنا بناتكم جواري لنا يرقصن أمامنا وأنتم ترون وتتألمون ولا تتكلمون؟ أم كان ذلك استفزازاً للناس، وتحقيقاً لمآرب أحزاب تريد أن يضطرب أمر الناس في هذا البلد وأن يُفقَد فيه الأمان؟
لست أدري. ولكن ذلك كله قد كان، فما نتيجة هذا الذي

الصفحة 399