كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

تمتصّ من الحيّ دمَه ومن النبات نسغَه وتتسلّق على ساق الشجرة لأنها حُرمت الساق الذي تقوم عليه، وأخذوا منه جليل الأموال، وأغراه بعضهم فجاء بالنقّاش والمصوّرين فجعل من داره نموذجاً مصغراً للحمراء في غرناطة.
ثم أنشأ على سفح الجبل في دمّر (وهي أقرب مصايف دمشق إليها) أنشأ قصراً عجيباً: له أدراج ملتوية تصعد من الجانبَين تلتقي وتفترق، وكلّما التقت قامت بِركة مزخرَفة فيها نوافير عجيبة. ومن أعظم مآثر العرب براعتهم في الصناعات وفي النوافير خاصة، وفي الساعات. أمّا الكلام عن الساعات وما أبدعوا فيها فله مكان غير هذا المكان، وأمّا النوافير فأضرب لها مثلاً واحداً: دخلت على عهدي بالدراسة في دار العلوم سنة 1928 متحف الفنون الإسلامية في ميدان باب الخلق في القاهرة، فرأيت هذه النوافير، فقال لي قيّم المتحف: إذا قعدت على هذا الكرسي ترى عجباً. فقعدت ففتح الصنبور، فإذا الماء من حولي كأنه قبّة متّصلة مبنيّة من الزجاج، تتكسّر عليها الأنوار فتضيء كأنها جوهرة كبيرة، وأنا فيها لا تصيبني قطرة من الماء!
لقد أضاعت هذه الزخارفُ وأضاع تمنّي المُلك ثروةَ الأمير، فبيع القصر وصار حيناً مقهى. كما ضاع في الحمراء سلطان المسلمين في الأندلس حين بعنا حقائق المجد بنقوش وزخارف تُبهِج الأبصار، ولكنها لا تحمي الذمار ولا تدفع الأعداء عن الديار.
وممّا يتصل بحديث الأمير وحديث الجزائر أن وفداً عربياً فيه

الصفحة 55