كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

(إلى أن قلت): إنها مجزرة ظاهرة ومذبحة مُعلَنة، والرأي العامّ في أوربّا وأميركا يسمع ويرى ولكنه لا يتكلم. في الحرب الماضية نادوا يا للإنسانية ويا للديمقراطية، ويا للعدالة التي استُبيح حماها ودُنِّس قدسها لأن اللصوص الخوَنة من اليهود نكّل بهم الألمان. وفي كوريا بكوا بعيون التماسيح ونعبوا بحناجر البوم، فما لهم اليوم خرسوا فلا ينطقون؟ وما لهم عَمُوا وصَمُّوا فلا يُبصِرون ولا يسمعون؟ ألا يدرون ماذا يجري في الجزائر أو يدرون ويتغافلون؟
(إلى أن قلت): فيا أيها الفرنسيون، لا تذكروا الحُرّية والأُخُوّة والمساواة بعد اليوم ولا حقوق الإنسان؛ إنكم تدنّسون طهر هذه الألفاظ ونقاءها حين تضعونها في أفواهكم، ولا تحتفلوا بيوم 14 تموز (يوليو) ولا تقرؤوا كتب روسو وهوغو ولامارتين، ولا تُسيئوا إلى الأدب الفرنسي بادعائكم أنكم أربابه. إنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب.
لقد خنتم تاريخكم ولطّختم وجه أمجادكم بالطين. لقد أطفأتم المصباح الذي زعمتم أنكم رفعتموه يوماً للشعوب حين ثرتم ثورتكم الكبرى، وما ثورتكم الكبرى هذه التي ملأتم الدنيا فخراً بها واعتزازاً؟ لقد كانت ثورة القتل والتدمير والسلب والنهب، ثورة مجرمة حمقاء مغموسة بدماء الأبرياء. وما الفرق بينها وبين عهد الملوك قبلها إلاّ أنه كان في عهد الملوك نفر معدودون يظلمون، فصار بالثورة كل فرد من الشعب ملكاً ظالماً!
إن فرنسا تمشي القهقرى، كل يوم خطوة إلى الوراء؛ لقد

الصفحة 58