كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

كانت لغتكم لغة السياسة والكياسة والحبّ فسبقَتها اللغة الإنكليزية وصيّرتها وراء وراء. وكانت دولتكم من الدول العظمى فصارت اليوم وراء وراء. وكنتم علماء فصرتم تراجمة، لقد انتهى العلم في فرنسا وصار خير ما تُخرِجه مطابعها المترجَم من اللغات الأخرى. لقد عقمَت فرنسا أن تُخرِج مثل باستور ولافوازيه وديكارت وهانري بيرسون وهوغو وأناتول فرانس ومدام كوري، وصارت عجوزاً متصابية فاجرة أدركها سنّ الإياس فلا تلد العظماء.
وكانت لكم مستعمَرات فأضعتم بحماقتكم مستعمراتكم، وستضيع منكم إفريقيا كلها على رغم أنوفكم ورغم الرصاص الذي «شحدتموه» من أميركا وسلّطتموه فيها على العزّل الأبرياء. وها أنتم أولاء قد بقيتم في الجزائر قرناً وثلث قرن، فهل استطعتم أن تجعلوها فرنسية؟ هل استطعتم أن تجعلوها تُحبّ فرنسا؟ هل استطعتم أن تمحوا منها العربية والإسلام؟ لقد عملتم كل شيء ولكن الذي أردتموه هو المستحيل.
(إلى أن قلت): لقد كتب ملككم فرانسوا الأول يوماً لأمّه، ثم كتب هذه الجملة نفسها إلى أكبر ملوك عصره، السلطان سليمان القانوني، حين مدّ يده يسأله العون والمدد. قال: "لقد خسرنا كل شيء إلاّ الشرف". وسيكتب التاريخ عنكم للأجيال القادمة -بما صنعتم بالجزائر- أنكم خسرتم كل شيء حتى الشرف.
أمّا دعواكم أن الجزائر بلد فرنسي وقطعة من فرنسا فستصير ذكرى مضحكة من ذكريات الحماقة الفرنسية، يتفكّه بها التاريخ وتضحك عليكم بها القرون الآتية. الجزائر فرنسية؟ بمَ؟ بمَ يا أيها

الصفحة 59