كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

لمّا كنّا في أوائل الثانوية عند نهاية الحرب الأولى كان الفرنسيون في الشام وفي أكثر الشمال الإفريقي، وكان الطليان في طرابلس، وكان الإنكليز في مصر وفي فلسطين وفي الهند، ولم يكن بلد مسلم لم تطأه أقدام جنود الاستعمار إلاّ هذه الجزيرة التي برّأها الله من أن تطأ أرضَها أقدامُ جنود الاستعمار.
لقد جلت جنودهم عن أرضنا ولكن خلّفوا لهم فيها جنوداً من أبنائنا، فبدؤوا عصر استعمار آخر: استعمار فكريّ، فكانت الوطنية التي أرادوا أن يُحِلّوها محلّ الدين، وهي من مبادئ الثورة الفرنسية التي سرَت إلينا مصطلحاتها ومشت على ألسنتنا كلماتها. ومنها كلمة المواطن والمواطنة الصالحة، بمدلولاتها الغريبة عنّا التي يريد ناس أن يُحِلّوها محلّ رابطة الإسلام.
ثم جاءت فتنة أشدّ هي القومية، وشهدتُ في العراق (كما حدّثتكم، وقد كنت أدرّس فيها بين الحربين العالَميتين) أعنفَ المعارك بيننا نحن الإسلاميين وبين دعاة القومية المناوئة للإسلام.
ثم جاءت قاصمة الظهر وقاصفة العمر ومصيبة العصر: الماركسية. وما أحسب الدجّال الذي وردَت فيه الأحاديث إلاّ كارل ماركس هذا. والدجّال أعور وهذا أعور حقيقة وإن كان ذا عينَين، لأنه ينظر بعين واحدة؛ المسلم ينظر إلى الدنيا والآخرة وهذا وأتباعه لا يرون إلاّ الدنيا، نحن ننظر إلى المادّة والروح وهذا لا يبصر إلاّ المادّة، نحن نرى الأرض والسماء وهذا بصره عالق بالأرض لا يرتفع عنها ولا يرى السماء.

الصفحة 62