كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

شكراً يا سادتي وعذراً، فإن هذه التحيّة النبيلة، هذا التصفيق الذي ينبعث من القلب هزّة حبّ تحرّك الأعصاب وتُطلِق الأيدي لتستحقّ خطبة من تلك الخطب العبقريات، التي تبدّل نفوساً بنفوس وتحوّل السامعين من حال إلى حال، وتتلاعب بالأفئدة والقلوب، وتسعّر الدم في العروق، وتصبّ العزم في الأعصاب.
وليس عندي الليلة شيء من هذا. ما عندي ما أستحقّ به تحيّتكم، لا لأني شخت وعجزت وغاض بياني وكَلّ لساني، بل لأني مُنعت يا سادتي. أُشهِدكم على أنني مُنعت من أمثال هذه الخطب.
لا تسرعوا بالعجب، بل فاسمعوا السبب. كان الفرنسيون في كل مكان من بلاد الشام، وكانوا هم السادة وكانوا هم القادة، لهم في كل دائرة مستشار والمستشار هو الحاكم، ولهم في كل قرية جند، وعلى كل أَكَمة قلعة موجّهة مدافعها إلينا لا إلى عدوّنا، وكانت الحكومة في ظاهرها منّا ولكنها في الحقيقة معهم علينا، فكنّا نخطب ونهجم على الحكومة ونثير الشعب على الفرنسيين، فيصفّق لنا الناس ويحملوننا على الأعناق.
فأُجلِيَ الفرنسيون عن ديارنا، وصارت الحكومة منّا ولنا، وصار زعيمنا في النضال رئيسَنا في الحكم، فلم يبقَ لنا ما نخطب فيه، فامتنع علينا الكلام وانقطعَت أرزاقنا!
فقلنا: لئن مُنعنا عن الكلام في شمالي الشام فلنمشِ إلى جنوبيه، إلى الأردن. فكنّا نسبّ غلوب ونطعن على الذين يأتمرون بأمره، فنشتري بذلك إعجاب الناس وتصفيق المستمعين، فطردوا

الصفحة 73