كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

غلوب وحرّروا البلد، فقطعوا أرزاقنا ومنعونا من الكلام.
فمشينا إلى الحجاز، فكنّا نتكلم على ضيق الحرم وسوء الطرق فنجد من السامعين التقدير والإكبار، فوسّعوا حرم المدينة حتى جعلوه آية في الإبداع، ووضعوا ستمئة مليون ليرة لإصلاح حرم مكّة، ولن تمرّ إلاّ سنوات قليلة حتى ينشأ في مكّة حرم جديد أوسع وأبدع في بنائه من هذا المسجد القديم. وخدموا الحرمَين في هذه السنوات الأربع أكثر ممّا خدمه ملوك المسلمين جميعاً في القرون الثلاثة عشر التي مضت، ووسّعوا الطرق وشرعوا بالإصلاح الشامل، فلم يعُد لنا مجال المقال.
فرحلنا إلى مصر، فكنّا نهمس في بعض الآذان نسبّ فاروقاً ونُظهِر عوراته ونطعن على الإنكليز، وكان لنا في ذلك ميدان، فجاؤوا فطردوا فاروقاً وألحقوا به الإنكليز، وفعلوا الأفاعيل التي ملأ حديثها الدنيا وشغل الناس.
فأين نذهب وماذا نقول؟ وهل يستطيع الأديب أن يعيش بلا أدب ولا لسان؟
(إلى أن قلت): وقفت فيكم يوم أسبوع التسلح على هذا المنبر أستحلفكم وأذكّركم، فما تركتموني أُتِمّ كلامي حتى تزاحمتم على صندوق التبرع، وتدافعتم مقبلين لا لتأخذوا بل لتُعطوا، ووقفتم في الطريق في هذا البرد تحت المطر تنتظرون أن تُفتَح لكم الأبواب لتدخلوا فتُعطوا، وعملتم العجائب.
(إلى أن قلت): لقد آذيتموني في أسبوع التسلّح وفضحتموني،

الصفحة 74