كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

فإذا كنتم تريدون أن تفضحوني هذه المرة أيضاً فخبّروني من الآن لأريحكم من كلامي وأستريح. وما فائدة الدرس إذا كان المتعلّم أعرفَ به وأسبقَ إليه من المعلّم؟ وإذا كنت أقول لكم «ألف» فتسبقون فتقولون «باء»، فأقول «باء» فتقولون «تاء» ... ندعو دمشق للإضراب فتُضرِب دنيا العرب كلها من مراكش إلى الخليج، بل إلى باكستان وأندونيسيا، فلا يبقى لكلامنا معنى!
(إلى أن قلت): لو كان مقامي الليلة في القاهرة أو بغداد لوجدت مشقّة في عرض صورة الحياة في الجزائر اليوم، لأن القوم هناك لم يجرّبوا فرنسا ولم يعرفوا منها إلاّ وجهها الثاني. فرنسا ذات وجهين: الوجه الذي يتمثّل فيه أدب الحُرّية وتتمثّل فيه مباحث علماء القانون وأعيان الفكر، والوجه الحقيقي الذي قابلَتكم به في ميسلون ثم في الغوطة التي كانت خضراء فجعلوها حمراء من مُهرَق الدماء.
فاذكروا ما كان في الثورة وانشروا صورتها في أذهانكم، وكبّروها مئة مرة تروا صورة الجزائر في هذه الأيام. أعرضُ عليكم لوحة صغيرة من لوحات الثورة كنت كتبت فيها قصّة نُشرت في مصر من ثماني وعشرين سنة (نُشرت في الزهراء سنة 1928)، ولكني لن أعرض القصّة بل الحادثة التي بنيتها عليها.
كنت يوماً في «بَسّيمة» في أواخر الثورة. وبسيمة جنّة من الجنان في وادي برَدى، هي جارة لنبع الفيجة الذي يسقي دمشق. وكان فيها الأمير الشابّ البطل عِزّ الدين الجزائري سبط شيخ الجهاد وبطل الجزائر الأمير عبد القادر، وكان في عدد قليل من

الصفحة 75