كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

المجاهدين، فكانت تخرج له الحملة الضخمة من الجنود معها السلاح والعتاد، فيربط لهم فم الوادي فيصيد جنودها ويهزمها ويردّها، فتعدو فرنسا على القرى الآمنة تنتقم -لعجزها- منها، فتسوق البُرآء من أهلها إلى الموت وتُذيقهم العذاب قبله ألواناً، وتهدم البيوت وتنهب الأموال ... كبّروا هذه الصورة ألف مرة تروا أمامكم صور الجزائر اليوم.
لكن الجزائر اليوم أوعى منّا يومئذ، لقد تقدّم بها الزمان. إن الجزائر تقف صفاً واحداً، لقد ذابت الأحزاب كلها في «جبهة التحرير» واجتمعَت القوى كلها في جيش التحرير.
تصوّروا مئة واد كوادي بسّيمة، وفي كل واد منها ووراء كلّ صخرة فيها مجاهدون من جيش التحرير. في كل مكان، في الوعور وفي أصلاد الجبال، يعيشون مع الصخر حيث لا تصبر جِمال الفَلا ووحوش البيد، فكيف بالشُّقْر المخنَّثين مِمّن قذفت حانات باريس يضربهم الثوار ولكنهم لا يرونهم، كالأُسد تعرف أنها في آجامها ولكن مَن يراها؟ لا لأنها تخاف فتهرب بل لأنها تُخاف فيُهرَب منها.
لقد عرفنا هذا أيام الثورة السورية، يوم كانت فرنسا لا تحكم إلاّ على بعض دمشق، وأكثرُ دمشق مع الغوطة بأيدي الثوّار. وكان في وسط العقيبة حصن (استحكام) فرنسي فيه ضابط باريزي أشقر ناعم، كأن رجولته خطأ مطبعي في سجل الحياة أو كأنه أنثى متخفّية في ثياب رجل، أَحَبّ أن يرى صورة حسن الخرّاط (أحد أبطال الثورة، الذي كتبت عنه قصّة لم تتمّ في مجلّة «الناقد»

الصفحة 76