كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

وأنا أخشى أن تمرّ بكم هذه الأخبار فلا تعرضوا في أذهانكم تفاصيلها. إن اللصّ ينزل على دار من الدور فتصيح المرأة ويبكي الطفل ويرتاع الجيران، وإن النار تشبّ في غرفة من الغرف فيضطرب الحيّ وتُزلزَل المنطقة كلها، وما هي إلاّ نار تنطفئ أو لصّ ينهزم.
فتصوّروا ما يصيب هؤلاء الناس حينما تفاجئهم وسط الليل وهم آمنون في دورهم المدافعُ ترجّ بهم الأرض، والطياراتُ تصبّ عليهم الحمم، والدبّابات قد صارت وسط دورهم والجند قد دخلوا بسلاحهم إلى غرف نومهم، فيطيش الرجل عن أهله ويُقتَل الأب أمام بناته، ويُنال من البنت بحضرة أبيها والمرأة بعين زوجها.
وإن هرب المرء لحقه الموت. وأين المهرب من النار وقد تفتّحَت أبوابها من كل جانب؟ وإن أفلت ولد من الموت عاش باليتم حياة ليست خيراً من الموت، وإن نجَت امرأة عاشت تتجرّع حزنها على زوجها وولدها، وقاست مرارة الحاجة وذلّ السؤال.
هذا ما يجري اليوم في الجزائر.
لقد سُنّ فيها قانون فاجر، لو صدر مثله عن جنكيز أو عن قبائل الهون في ذلك الزمن البعيد لقال التاريخ: إنهم تأخّروا عن زمانهم وانحطّوا عن رتبة أمثالهم، فكيف وقد أصدره الفرنسيون، أحفاد من نادوا بحرّية المساكين في قرن العشرين؟ قانون يسوغ لجنود فرنسا، حتى الأخلاط منهم (الفرقة الأجنبية) الذين هم حثالة كلّ أمة، أن يدخلوا ما شاؤوا من الدور فيما شاؤوا من ساعات

الصفحة 79