كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 5)

إليهم ما أعرض عنهم ولا ضاق بهم، كأنهم يقصّون عليه قصّة من قصص الأوّلين فهو يستمع إليها بلا انفعال ولا غضب. ومضت ساعة وربع الساعة، حتى إذا انتهوا قال: هل بقي شيء؟ قالوا: لا. وماذا بقي وهم ما أبقوا عليه؟ قال: اسمعوا ... وطفق يعيد التهم كما أوردوها ويردّ عليها واحدة واحدة، رداً منطقياً هادئاً مؤيَّداً بالبرهان مقوّىً بالدليل، فخرجوا وهم يحملون العجب منه والإعجاب به، وصاروا بعد ذلك معه وكانوا من قبلُ عليه.
وكذلك يمتلك الكبار أعصابهم. وسأحدّثكم عن واقعة مثلها لنواب صفوي، الزعيم الإيراني، مع الرئيس الشيشكلي على أيام حكمه في الشام.
* * *
مررت بفلسطين أوّل مرة -كما حدّثتكم- لمّا ذهبت إلى مصر سنة 1928، ووقفت بها في سفرتي الثانية سنة 1929 فزرت مع رفيقنا حسام الدين القدسي (ناشر الكتب المعروف الذي تخرّج قبلنا في كلية الحقوق في دمشق ولكنّه لم يشتغل قاضياً ولا محامياً، بل آثر الاشتغال بتحقيق الكتب ونشرها، والذي نشره منها يملأ خزانة كاملة) زرت معه أكثر مدن فلسطين وقابلت جماعة من أعيانها، منهم الشيخ الخالدي الذي زرناه في القدس، وهو صاحب المكتبة الكبيرة في داره، وخلاصة أسماء كتبها ومؤلّفيها والمخطوطات وأمكنة وجودها في ذهنه، فكأنّ الذي استوعبه ذهنه عن الكتب مكتبة أخرى بل مكتبات مجموعة، وهذا الذي دهش منه الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله، حتى كتب عن مجالسه

الصفحة 91