كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 13)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
لابني حتى يكبر . ومات الرجل ، فشبت العجلة في الغيضة وصارت عواناً وكانت تهرب من كل من رامها ؛ فلما كبر الابن - وكان براً بوالدته ، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث : يصلي ثلثاً ، وينام ثلثاً ، ويجلس عند رأس أمه ثلثاُ ؛ فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ، ويأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ، ثم يتصدق بثلثه ، ويأكل ثلثه ، ويعطي والدته ثلثه .
وحكى الكسائي عن وهب قال : كان في بني إسرائيل عبد صالح ، فمات وترك امرأته حاملاً ، فولدت غلاماً ، فسمته ميشى ، فكبر ، وكان يحتطب من المواضع المباحة ، وينفق على نفسه وأمه ، وكان كثير العبادة ؛ فلم يزل كذلك حتى كبر وضعف وعجز عن الاحتطاب .
قالوا : فقالت له أمه إن أباك ورثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله - عز وجل - فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك ، وإن من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها - وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها - فأتى الفتى إلى الغيضة ، فرآها ترعى ، فصاح بها وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب . فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه ، فقبض على عنقها وقادها ، فتكلمت بإذن الله - عز وجل - وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك . فقال إن أمي لم تأمرني من ذلك ، ولكن قالت : خذ بعنقها . فقالت البقرة : وإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبداً ، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل ، أبرك بوالدتك . فسار الفتى بها ، فاستقبله عدو الله إبليس في صورة راع وقال : أيها الفتى ، إني رجل من رعاة البقر ، اشتقت إلى أهلي فأخذت ثوراً من ثيراني ، فحملت عليه زادي ومتاعي ، حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضي حاجتي ، فعدى الثور وسط الجبل وما قدرت عليه ، وإني أخشى على نفسي الهلكة ، فإن رأيت أن تحملني على بقرتك . فلم يفعل الفتى وقال له : اذهب فتوكل على الله - عز وجل - فلو علم الله منك الصدق لبلغك بلا زاد ولا راحلة .
فقال له إبليس : إن شئت فبعنيها بحكمك ، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشراً مثلها . فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك . فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يديه ، فنفرت البقرة