كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 13)

"""""" صفحة رقم 59 """"""
فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار وأحضره ثم قال له : يا أبا إسحاق إني دعوتك لأمر رجوت أن يكون علمه عندك . فقال له : يا أمير المؤمنين على الخبير سقطت فسلني عما بدا لك . فقال له : أخبرنا يا أبا إسحاق ، هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة ، عمدها زبرجد وياقوت ، وحصا قصورها وغرفها اللؤلؤ ، وأنهارها في الأزفة تحت الأشجار ؟ قال : والذي نفس كعب بيده لقد ظننت أن سأتوسد يميني قبل أن يسألني أحد عن تلك المدينة وما فيها ولكن أخبرك بها يا أمير المؤمنين ولمن هي ، ومن بناها .
أما المدينة فهي حق على ما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وصفت له .
وأما صاحبها الذي بناها فشداد بن عاد .
وأما المدينة فهي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد . فقال له معاوية : يا أبا إسحاق ، حدثنا بحديثها يرحمك الله . فقال كعب : نعم يا أمير المؤمنين ، إن عاداً كان له ابنان يسمى أحدهما شديداً والآخر شداداً ، فهلك عاد ، فبقيا وملكا وتجرا ، فقهرا أهل البلاد ، وأخذاها عنوة وقسرا ، حتى دان لهما جميع الناس ، فلم يبق أحد من الناس في زمانهما إلا دخل في طاعتهما ، لا في شرق الأرض ولا في غربها ، وإنهما لما صفا لهما ذلك وقر قرارهما مات شديد بن عاد ، وبقي شداد ، فملك وحده ، ولم ينازعه أحد ودانت له الدنيا كلها ، فكان مولعاً بقراءة الكتب القديمة ، وكان كلما مر فيها بذكر الجنة دعته نفسه لتعجل تلك الصفة لنفسه الدنية عتواً على الله وكفراً ، فلما وقر ذلك في نفسه أمر بصنعة تلك المدينة التي هي إرم ذات العماد ، وأمر على صنعتها مائة قهرمان ، مع كل واحد ألف من الأعوان ، ثم قال : انطلقوا إلى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها ، واعملوا فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ ، تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد ، وعلى المدينة قصور ، وفوق القصور غرف ، ومن فوق الغرف غرف ، واغرسوا تحت القصور غروساً فيها أصناف الثمار كلها ، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت تلك الأشجار جارية ، فإني أسمع في الكتب صفة الجنة ، وإني أحب أن أتخذ مثلها في الدنيا ، أتعجل سكناها . فقال له قهارمته : كيف لنا بالقدرة على ما وصفت لنا من

الصفحة 59