كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 13)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
الصنوبرة ، وقد غرسوا في كل عين حبة من تلك الصنوبرة ، فنبتت الحبة وصارت شجرة عظيمة ، وحرموا ماء تلك العيون والأنهار ، لا يشربون منها ولا أنعامهم ، ومن فعل ذلك منهم قتلوه ويقولون : هي مياه آلهتنا ، ولا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها ، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليهم قراهم ؛ وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيداً يجتمع أهلها ويضربون على تلك الشجرة مظلة من الحرير ، فيها من أصناف الصور ؛ ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قرباناً للشجرة ، ويشعلون فيها النيران ، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها وبخارها في الهواء ، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء ، خروا سجداً ، ويتلون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم .
وكان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي : عبادي قد رضيت عنكم ، فطيبوا نفساً ، وقروا عيناً ، فيرفعون عند ذلك رءوسهم ، ويشربون الخمر ، ويضربون بالمعازف ؛ فيكونون على ذلك يومهم وليتهم ، ثم ينصرفون ؛ حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى ، اجتمع إليهم صغيرهم وكبيرهم ، فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقاً من ديباج ، عليه من أنواع الصور ، له اثنا عشرباباً ، كل باب لأهل قرية منهم ؛ ويسجدون للصنوبرة خارجاً من السرادق ، ويقربون لها الذبائح أضعاف ما يقربون للأشجار التي في قراهم ، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرك الشجرة تحريكاً شديداً ، ويتكلم من جوفها كلاماً جهراً ، ويعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعدهم به الشياطين كلهم ؛ فيرفعون رءوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلمون معه ؛ فيداومون العزف والشرب ، فيكونون على ذلك اثني عشر يوماً بلياليها بعدد أعيادهم في السنة ؛ ثم ينصرفون ؛ فلما طال كفرهم بالله تعالى وعبادتهم غيره ، بعث الله إليهم نبياً من بني إسرائيل من ولد يهوذا بن يعقوب ، فلبث فيهم زمناً طويلاً يدعوهم إلى الله تعالى ، ويعرفهم ربوبيته ؛ فلا يتبعونه ولا يسمعون مقالته ؛ فلما رأى شدة تماديهم في البغي والضلالة وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح ، وحضر عيد قريتهم العظمى قال : يا رب إن عبادك أبوا تصديقي ودعوتي لهم ، فما زادوا إلا تكذيبي والكفر بك ، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر ، فأيبس شجرهم أجمع ، وأرهم قدرتك وسلطانك .