كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 14)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
النصر لا شك فيه ؛ فسارعوا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى ، لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ، ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج بامرأة ولم يبن بها ؛ ولا يتبعني إلا الشاب النشيط الفارع . فاجتمع له ثمانون ألفا على شرطه - وكانوا في حر شديد - فشكوا قلة المياه فيما بينهم وبين عدوهم ، وقالوا : إن المياه لا تحملنا ، فادع الله تعالى أن يجرى لنا نهراً . فقال لهم طالوت : " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني " أي من أهل ديني وطاعتي ؛ " ومن لم يطعمه فإنه مني " ؛ ثم استثنى فقال : " إلا من اغترف غرفة بيده " . قال الكسائي : لما سألوه أن يجري لهم نهراً قال : أفعل - إن شاء الله - وسار بهم حتى إذا كانوا في برية وفقدوا الماء وأجهدهم العطش ، أتوه ، فدعا أن يجري الله تعالى لهم نهراً ؛ فأوحى الله إليه ما أخبر به في كتابه ؛ قال الله تعالى : " فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر " الآية . قال : وهو نهر الأردن من بلاد فلسطين . وقال الثعلبي : قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين . وقال قتادة والربيع : هو نهر بين الأردن وفلسطين ، عذب . قال الكسائي : قالوا : وما تغني عنا الغرفة ثم عرض لهم النهر فانهمكوا في شربه . قال الله تعالى : " فشربوا منه إلا قليلاً منهم " قال : واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا ؛ فقال السدي : كانوا أربعة آلاف . وقال غيره : كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وهو الصحيح ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل بدر " أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر " وكان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر .
قالوا : فلم يزد هؤلاء على الغرفة فكانت كفاية لهم ولدوابهم ؛ فمن اغترف غرفة ، كما أمر الله ، نور الله قلبه وصح إيمانه ، وعبر النهر سالماً . والذين شربوا وخالفوا أمر الله عز وجل اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ؛ فقال طالوت للذين عصوا ربهم : ارجعوا فلا حاجة لي بكم فرجعوا . قال الله تعالى : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " وإنما قال ذلك الذين عصوا وشربوا " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .