كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 14)

"""""" صفحة رقم 55 """"""
قال : فأتاه نداء من السماء : يا داود ، قد غفرت لك ذنبك ، ورحمت بكاءك ، واستجبت دعاءك ، وأقلت عثرتك . قال : يا رب ، كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني ؟ قال : يا داود ، أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ، ولم تسمع أذناه ، فأقول له : رضيت عبدي ؟ فيقول : يا رب ، من أين لي هذا ولم يبلغه عملي ؟ فأقول له : هذا عوض من عبدي داود ، فأستوهبك منه فيهبك لي . قال : يا رب ، الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي . فذلك قوله تعالى : " فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ، فغفرنا له ذلك " ، أي ذلك الذنب " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي وإن له بعد المغفرة عندنا يوم القيامة حسن مرجع . قال الثعلبي ورفعه إلى وهب بن منبه قال : إن داود - ع - لما تاب الله تعالى عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقأ له دمعة ليلاً ونهاراً ، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة ، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام ، فجعل يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوماً لنسائه ، ويوماً يسيح في الفيافي والجبال والساحل ، ويوماً يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب ؛ فيجتمع إليه الرهبان ، فينوح معهم على نفسه ، ويساعدونه على ذلك . فإذا كان يوم سياحته يخرج في الفيافي ، فيرفع صوته بالمزامير ، فيبكي وتبكي معه الشجر الرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ؛ ثم يجيء إلى الساحل فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء ، فإذا أمسى رجع ، فإذا كان يوم نوحه نادى مناد : إن اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده . قال : فيدخل الدار التي فيها المحاريب ، فتبسط له فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ، ويجيء الرهبان وهم أربعة آلاف ، عليهم البرانس وفيه أيديهم العصي ، فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالنوح والبكاء ، ويرفع الرهبان معه أصواتهم ، فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه ، ويقع داود مثل الفرخ يضطرب ، فيجيء ابنه سليمان فيحمله ، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ، ثم يمسح بها وجهه ويقول : يا ب اغفر ما ترى . قال : فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله .

الصفحة 55