كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 14)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
ساحل البحر إلى جانب أيلة حجران أبيضان ، وكانت الحيتان تخرج إلى أصلهما ليلة السبت ويوم السبت ، لأنها كانت لا تصاد ، فإذا أقبلت ليلة الأحد خرجت منهما إلى البحر ، فيتعذر عليهم صيدها فيه إلا بمشقة ؛ فذلك قوله تعالى : " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " . فجعل فساق أهل أيلة يقول بعضهم لبعض : إنما حرم الله تعالى الاصطياد على آبائنا وأجدادنا لا علينا ، ونحن لا ذنب لنا ، وهذه الحيتان تكثر يوم السبت وليلته ، فمن المحال تركها ؛ فاصطادوها وطبخوها وشووا منها ، فشم المؤمنون رائحتها في يوم السبت ، فخرجوا إلى الفساق ووعظوهم وحذروهم ، فلم يكترثوا لذلك ولم ينتهوا عنه ، فاجتمع المؤمنون على أبواب القرية بالسلاح ومنعوهم من دخولها ، فاشتد ذلك على الفساق وشق عليهم أن يمتنعوا من الاصطياد في يوم السبت لكثرة الحيتان فيه دون غيره من الأيام ، فقالوا : إن هذه القرية مشتركة بيننا وبينكم ولا يحل لكم أن تمنعونا منها ، فإما أن تصبروا على أفعالنا أو تقاسمونا القرية فننفرد عنكم . فتراضوا على ذلك وقاسموهم القرية ، وبنوا بينهم حيطاناً عالية وباباً يدخلون منه غير بابهم ، وانفردت كل طائفة ، واشتغل الفساق باللهو واللعب والاصطياد ، وحفروا أنهاراً صغاراً من البحر إلى أبواب دورهم ، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم السبت ، فإذا غربت الشمس همت الحيتان بالرجوع إلى البحر ، فيسدون أفواه تلك الأنهار مما يلي البحر ، ويصيدون تلك الحيتان . هذا والمؤمنون يخوفونهم عذاب الله فلا يرجعون . فلما طال ذلك وتكرر منهم قال بعض المؤمنين لبعض : إلى كم ننصح هؤلاء ولا يزيدون إلا تمادياً وعتواً قال الله تعالى : " وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً " الآية .
قال : واستغنى الفساق وكثرت أموالهم ، واشتروا الضياع وانهمكوا على الفسق فبلغ ذلك داود - ع - فلعنهم ودعا عليهم . فبينما هم في منازلهم في شر ما هم فيه إذ زلزلت قريتهم زلزلة عظيمة ، ففزع المؤمنون وخرجوا من بيوتهم ؛ قال الله تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون " وقال تعالى : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " . فالذين لعنوا على لسان داود هم هؤلاء الذين اعتدوا في السبت ، والذين لعنوا على لسان عيسى الذين سألوه نزول المائدة ، فلما نزلت عليهم كفروا .