كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 14)

"""""" صفحة رقم 70 """"""
قال : فانذعر الغلام وفزع ، ثم قال : قد عرفته ، هو الذي قتل أبي وسبى ذريته ، وإني لمن طلقائه وممن يؤدي إليه الخراج ، ورسله الطير والرياح ، ثم بكى الغلام . فقالت الجارية : وما يبكيك ؟ قال : أبكي على وحدتك في مثل هذا الموضع الذي ليس به أنيس ولا أحد ، وإن مثلك في الدنيا عدد الشجر والمدر ، وكلهم في مقاصير الذهب والفضة والعيش الهنئ واللذة الحسنة مع الأزواج يتعانقون ويتنعمون ، ويتوالدون أولاداً مثل خلقتك وخلقتي ، أرأيت إن هاجت الريح وأزعجتك من وكرك من يمسكك أن تقعي في البحر ؛ فإن وقعت في البحر فمن ذا الذي يخرجك . قال : ففزعت من قوله وقالت : وكيف لي أن يكون معي إنسي مثلك يحدثني مثل حديثك ، ويحفظني من خوف ما ذكرت . فقال لها الغلام : أولا تعلمين أن الله الذي اتخذ سليمان نبياً وسخر له الطير والرياح هو الذي رحمك وساقني إليك إلفاً وصاحباً وأنيساً ، وأني من أبناء الملوك . قالت الجارية : وكيف تصير إلي وأصير إليك ، وهذه العنقاء تنام وتحضنني إلى صدرها بين جناحيها ؟ قال الغلام : تكثرين جزعك ووحشتك وبكاءك على العنقاء ليلتك هذه إذا انصرفت إليك ، فإذا قالت لك : ما تخشين وما شأنك ، فأخبريها بحديثك ، ثم انظري إلى ما يكون ردها عليك فتخبريني به . فراحت العنقاء فوجدتها حزينة كئيبة . فقالت لها : يا بنية ، ما شأنك ؟ قالت : الوحدة والوحشة ، وإني لجزعة على نفسي لذلك . فقالت لها : يا بنية لا تخافي ولا تحزني ، فإني أستأذن سليمان أن آتيه يوماً وأتخلف عنه يوماً . فلما أصبحت أخبرت الغلام بجوابها . فقال لها : لا تريدي هذا ، ولكن سأنحر من دوابي هذه فرساً وأبقر بطنه وأخرج ما في جوفه وأقيره وأطينه وأدخل أنا في جوفه ، وألقيه على قرقور سفينتي هذه ، فإذا جاءتك العنقاء فقولي لها : إني أرى عجباً ، حلقة ملقاة على هذه السفينة ، فلو اختطفتها وحملتيها إلى وكري هذا ، فأنظر وأستأنس بها ، كان أحب إلي من كينونتك عندي نهاراً وإمساكك عني خبر سليمان . فرجعت العنقاء فوجدتها في مثل حالها ، وشغل سليمان عنها ، فلم تصل إليه في استئذانها إياه بالمقام يوماً في منزلها .

الصفحة 70