كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 14)

"""""" صفحة رقم 72 """"""
ذلك ، وأمر عريف الطير ألا يفارقها حتى يوافي بها . فمرت العنقاء ، وكانت الجارية إذا قربت منها العنقاء تسمع حفيف أجنحتها ، فيبادر الغلام فيدخل جوف فرسه ، فقالت كالفزعة : إن لك لشأناً إذ رجعت نهاراً . قالت : لعمري إن لي لشأناً ، إن سليمان قد أمرني بإحضارك الساعة لأمر جرى بين وبينه في أمرك ، فأنا أرجو نصرتي اليوم فيك . قالت : فكيف تحمليني ؟ قالت : على ظهري . قالت : وهل أستقر على ظهرك وأنا أرى أهوال البحر فلا آمن أن أزل وأسقط فأهلك قالت : ففي منقاري . قالت : وهل أصبر في منقارك قالت : فكيف أصنع ؟ لا بد من إحضارك إلى سليمان ، وهذا عريف الطير معي ، وقد دعا بكفيلي البومة . قالت : أدخل جوف هذا الفرس ، ثم تحملين الفرس على ظهرك أو في منقارك ، فلا أرى شيئاً ولا أسقط ولا أفزع . قالت : أصبت . فدخلت في جوف الفرس واجتمعت مع الغلام ، وحملت العنقاء الفرس بما فيه في منقارها ، وطارت حتى وقعت بين يدي سليمان ، فقالت : يا نبي الله ، هي الآن في جوف الفرس ، فأين الغلام فتبسم سليمان - ع - طويلاً وقال لها : أتؤمنين بقدر الله تعالى وقضائه إنه لا حيلة لأحد في دفع قضاء الله تعالى وقدره وعلمه السابق الكائن من خير وشر . قالت العنقاء : أومن بالله وأقول : إن المشيئة للعباد والقوة ، فمن شاء فليعمل خيراً ومن شاء فليعمل شراً . قال سليمان : كذبت ما جعل الله من المشيئة إلى العباد شيئاً ، ولكن من شاء الله أن يكون سعيداً كان سعيداً ، ومن شاء أن يكون كافراً كان كافراً ، فلا يقدر أحد أن يدفع قضاء الله وقدره بحيلة ولا بفعل ولا بعلم ، وإن الغلام الذي قد ولد بالمغرب والجارية التي ولدت بالمشرق قد اجتمعا الآن في مكان واحد على سفاح ، وقد حملت منه الجارية ولداً . قالت العنقاء : لا تقل يا نبي الله هذا ، فإن الجارية معي في جوف فرسي هذا . قال سليمان : الله أكبر أين البومة المتكفلة بالعنقاء ؟ قالت : هأنا . قال سليمان : على مثل قول العنقاء أنت ؟ قالت نعم . قال سليمان : يا قدر الله السابق قبل الخلق أخرجهما على قضاء الله وقدره . قال : فأخرجهما جميعاً من جوف الفرس .
فأما العنقاء فتاهت وفزعت فطارت في السماء وأخذت نحو المغرب ، واختفت في بحر من بحار المغرب وآمنت بالقدر وحلفت لا ينظر الطير في وجهها أبداً استحياء منها .

الصفحة 72