كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 6)

-سنة ستٍّ وخمسين ومائتين
تُوُفّي فيها: الربيع بْن سُليمان الجيزيّ، والزُّبَير بْن بكّار، وعبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن شَبَّويْه المَرْوزِيّ الحافظ، وعبد اللَّه بْن محمد الزُّهْريّ المخرّميّ، وعلي بْن المنذر الطّريقيّ، وأبو عبد الله الْبُخَارِيّ ليلة عَيد الفِطْر، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، وَمُحَمَّدُ بْن عثمان بْن كرامة، والمهتدي بالله محمد ابن الواثق.
وفي أولها قدِم الأمير مُوسَى بْن بُغَا وعبى جيشه ميمنة وميسرة وشهروا السلاح، ودخلوا سامراء مجمعين عَلَى قتل صالح بْن وصيف بدم المعتزّ، يقولون: قتل أمير المؤمنين المعتزّ، وأخذ أموال أمّه قبيحة وأموال الكُتّاب، وصاحت العامّة والغوغاء عَلَى ابن وصيف: " يا فرعون قد جاءك موسى "، فطلب موسى من بُغَا الإذن عَلَى المهتدي بالله، فلم يؤذن لَهُ، فهجم بمن معه عَلَيْهِ وهو جالس فِي دار العدْل، فأقاموه وحملوه عَلَى فَرَس ضعيفة، وانتهبوا القصر، فلما وصلوا إلى دار ياجور أدخلوا المهتدي إليها وهو يقول له: يا مُوسَى اتقِ اللَّه، ويْحَك ما تريد؟ قَالَ لَهُ: والله ما نريد إلَا خيرًا، وحَلَفَ لَهُ: لَا نالك سوء، ثمّ حَلَّفوه أن لَا يمالئ صالح بْن وصيف، فحلَف لهم، فبايعوه حينئذ ثمّ طلبوا صالحًا لكي يناظروه عَلَى أفعاله، فاختفى، ورُد المهتدي بالله إلى داره، ثمّ قُتِل صالح بْن وصيف بعد شهر شر قتلة.
وفي آخر المحرم ظهر كتابٌ ذكر أن سِيما الشَّرابيّ، زعم أنّ امرأةً جاءت بِهِ، وفيه نصيحة لأمير المؤمنين: وإنْ طلبتموني فأنا فِي مكان كذا، فلمّا وقف -[12]- عَلَيْهِ المهتدي طلبها فِي المكان فلم يوجد لها أثر، فدعا مُوسَى بْن بُغَا وسليمان بن وهب ومفلحاً وباكباك، وياجور، ودفَع الكتاب إلى سُلَيْمَان فقال: أتعرف هذا الخط؟ قَالَ: نعم، خطّ صالح بْن وصيف، ثمّ قرأه عَلَيْهِم، وفيه يذكر أنّه مُسْتَخْفٍ بسامراء، وأنه استتر خوفاً من الفتن، وأن الأموال علمها عَنْد الْحَسَن بْن مَخْلَد، وكان كتابه يدلّ عَلَى قوة نفسه، فندب المهتدي إلى الصّلح، فاتهمه موسى وذووه بأنّه يدري أين صالح، فكان بينهم فِي هذا كلَام، ثمّ مِنَ الغد تكلموا فِي خلعه، فقال باكباك: ويْحَكُم، قتلتم ابن المتوكلّ وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ويصلي ولا يشرب؟ والله لئِنْ فعلتم لأصيرنّ إلى خراسان ولأشيعن أمركم هناك.
ثمّ خرج الَمهتدي إلى مجلسه وعليه ثياب بيض، متقلداً سيفًا، ثمّ أمر بإدخالهم إِلَيْهِ، فقال: قد بلغني شأنكُم، ولست كمن تقدَّمني مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلَا وأنا متحنّط وقد أوصيت، وهذا سيفي، والله لأضربن بِهِ ما استمسكْتُ قائمته بيدي، أما دِين! أما حَيَاء! إمَا رِعة! كم يكون الخلَاف عَلَى الخلفاء والْجُرأة عَلَى اللَّه؟! ثمّ قَالَ: ما أعلم عِلم صالح، قَالُوا: فاحِلفْ لنا، قَالَ: إذا كَانَ يوم الجمعة، وصلَّيت الجمعة، حلفت لكم، فرضوا وانفصلوا على هذا.
ثمّ ورد إذْ ذاك مالٌ مِن فارس نحو من عشرة آلاف ألف درهم، فانتشر فِي العامة أنّ الأتراك على خلع المهتدي، فثار العوام والقواد، وكتبوا رقاعاً وألقوها في المساجد: يا معاشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدْل الرّضا المضاهي لعمر بْن عَبْد العزيز أنْ ينصره اللَّه عَلَى عدوّه، وراسل أهل الكَرْخ والدُّور المهتدي بالله فِي الوثوب بموسى بْن بُغَا والأتراك، فجزاهم خيرًا ووعدهم بالخير.
وفيها تحول الزنج فقربوا مِنَ البصرة، وأخذوا مراكب كثيرة بأموالها؛ فتهيأ سعيد الحاجب لحربهم.
وفي أول جماد الأولى رحل موسى بن بغا وباكباك إلى مساور الشاري وكانا ماكثين قريبا من الموصل، وتقهقر مساور.
وفي رجب ثار الجند يطلبون العطاء، فلم يعطوا شيئا، ووعدهم المهتدي، وكان موسى وباكباك فِي طلب مساور.
وكان المهتدي قد استمال باكباك وجماعة من الأتراك، فكتب إلى باكباك -[13]- أنْ يقتل مُوسَى ومُفْلحًا أو يمسكهما، ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم، فأوقف باكباك مُوسَى عَلَى كتابه وقال: إنيّ لست أفرح بهذا، وإنما هذا يعمل علينا كلنا، فأجمعوا على أن يسير باكباك إلى سامراء، فإن المهتدي يطمئن إليه، لم يقتله.
فسار إلى سامرّاء ودخل عَلَى المهتدي فغضب وقال: أمرتك أن تقتل موسى ومفلحا فَدَاهنْت، قَالَ: كيف كنت أقدر عليهما وجيشهما أعظم من جيشي، ولكن قَدْ قدِمت بجيشي ومن أطاعني لأنصُرك عليهما، فأمر المهتدي بأخذْ سلَاحه، فقال: أذهب إلى منزلي وأعود، فليس مثلي من يفعُل بِهِ هذا، فأخذ سلاحه وحبسه، ولمّا أبطأ خبره عَلَى أصحابه قَالَ لهم أَحْمَد بْن خاقان الحاجب: اطلبوا صاحبكم قبل أنْ يفْرُط بِهِ أمرٌ، فأحاطوا بالْجَوْسق، فقال المهتدي لصالح بْن عَلِيّ بْن يعقوب بْن المنصور: ما ترى؟ فقال: قد كَانَ أَبُو مُسلْمِ أعظم شأنًا من هذا العبد، وأنت أشجع مِن المنصور، فاقتله.
فأمر بضرب عنقه، وألقى رأسه إليهم، فجاشوا، وأرسل المهتدي إلى الفراغنة والمغاربة والأشروسنية، فجاؤوا واقتتلوا، فقُتِل مِنَ الأتراك أربعة آلاف، وقيل: ألفان، وقيل: ألف، فِي ثالث عشر رجب يوم السبت، وحجز بينهُمُ الليل؛ ثمّ أصبحوا على القتال ومعهم أخو باكباك وحاجبه أَحْمَد بْن خاقان فِي زُهاء عشرة آلاف.
وخرج المهتدي بالله ومعه صالح بْن عَلِيّ والمصحف فِي عُنقه، وهو يَقُولُ: أيُّها النّاس انصروا خليفتكم، وحمل عليه طغوياً أخو باكباك فِي خمس مائة، فمال الأتراك الذين مَعَ الخليفة إلى طغويا، والتحم الحرب، فانهزم جمْع الخليفة وكثُر فِيهِمُ القتْل، فولّى منهزمًا والسيف فِي يده، وهو ينادي: أيها الناس انصروا خليفتكم.
ثمّ دخل دار صالح بْن محمد بن يزداد، ورمى سلاحه ولبس البياض ليهرب مِنَ الأسطحة، وجاء أَحْمَد حاجب باكباك فأخبر بِهِ، فتبعه، فهرب، فرماه بعضهم بسهمٍ ونفجَه بالسيف، ثمّ حُمِل إلى أَحْمَد، فأركبوه بغلاً، وركبوا خلفه سائساً، وأتوا به إلى دار أحمد بْن خاقان، وجعلوا يضربونه ويقولون: أين الذهب.
فأقر لهم بست مائة ألف دينار مودعة ببغداد، أودعها الكرخي، فأخذوا خطّه إلى خشف الواضحية المُغَنّية بست مائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجلٍ، فعصر عَليْ خصيتيه فمات، وقيل: -[14]- كانت بِهِ طعنه فحملوه عَلَى بِرْذَون، وقيل: أرادوه بدار أَحْمَد عَلِيّ الخلْع، فأبي واستسلم للقتل، فقتلوه.
وبايعوا أحمد ابن المتوكل ولقّبوه المعتمد عَلَى اللَّه، وكنيته أَبُو الْعَبَّاس، وقيل: أَبُو جعْفَر، فِي سادس عشر رجب.
وقدِم مُوسَى بْن بُغَا إلى سامرّاء بعد أربعة أيام، وخمدت الفتنة، وكان المعتمد محبوساً بالجوسق فأخرجوه.
وقتل المهتدي مع باكباك أَبَا نصر محمد بْن بُغَا أخا مُوسَى.
وضيّق المعتمد عَلَى عيِال المهتدي بالله، ثمّ استعمل المعتمد أخاه الموفق طلحة عَلَى المشرق، وصيّر أبنه جعفرًا ولي عهده، وولَاه مصر والمغرب، ولقّبه المفوض إلى اللَّه، وانهمك المعتمد في اللهو واللذات، واشتغل عَنِ الرّعيّة، فكرهه النّاس وأحبوا أخاه طلحة.
وفي العشرين من رجب دخلت الزَّنج البصرة، فقتلوا وفتكوا، وفعلوا بالأهواز والأُبلةَ أكثر مما فعلوا بالبصرة.
وفيها ظهر بالكوفة عَلِيّ بْن زيد الطالبيّ، فبعث إليه المعتمد جيشاً هزمهم الطالبي.
وفيها غلب الْحَسَن بْن زيد الطالبيّ عَلَى الرِّيّ، فجهز إليه المعتمد مُوسَى بْن بُغَا، وخرج معه مُشيِّعا له.
وفيها حجّ بالنّاس محمد بْن أَحْمَد بْن عيسى بن المنصور أبي جعفر العباسي.
وأما صالح بْن وصيف، فكان قد استطال عَلَى الخلفاء وقتل المعتزّ، وأقام المهتدي، وحكم عَلَيْهِ، وذكرنا استتاره فِي أيّام المهتدي، قَالَ: فنادى عَلَيْهِ مُوسَى بْن بُغَا: من جاء بِهِ فله عشرة آلاف دينار، فلم يظفر به أحد، فاتفق أنّ بعض الغلْمان دخل زقاقًا وقت الحرّ، فرأى بابًا مفتوحًا فدخل، فمشى فِي دِهْليز مظلمٍ، فرأى صالحًا نائمًا، فعرفه وليس عنده أَحْد، فجاء إلى مُوسَى فأخبره، فبعث جماعةً فأخذوه، ثمّ ذهبوا بِهِ مكشوف الرأس إلى الْجَوْسَق، فبادره بعض أصحاب مُفْلح، فضربه من ورائه، واحتزُّوا رأسه وطافوا بِهِ، وتألًم المهتدي فِي الباطن لقتْله، وقال: رحِم اللَّه صالحًا، فلقد كَانَ ناصحًا.
وأمّا الصُّوليّ، فقال: عذَّبوه في حمام كما فعل بالمعتز، حتى أقر بالأموال ثم خنقوه.

الصفحة 11