كتاب نيل الأوطار (اسم الجزء: 6)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَوَاتَرْ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَ التَّوَاتُرِ شَرْطًا مَمْنُوعٌ، وَالسَّنَدُ مَا أَسْلَفْنَا عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ كَالْجَزَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي بَابِ الْحُجَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ مِنْ أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ نَقَلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَا يُخَالِفُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَمْ يُعَارِضْ نَقْلَهُ مَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةٍ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ هُنَالِكَ وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ التَّوَاتُرِ فِيمَا نُسِخَ لَفْظُهُ عَلَى رَأْيِ الْمُشْتَرِطِينَ مَمْنُوعٌ
وَأَيْضًا انْتِفَاءُ قُرْآنِيَّتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ حُجِّيَّتِهِ عَلَى فَرْضِ شَرْطِيَّةِ التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِالظَّنِّ، وَيَجِبُ عِنْدَهُ الْعَمَلُ وَقَدْ عَمِلَ الْأَئِمَّةُ بِقِرَاءَةِ الْآحَادِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] مُتَتَابِعَاتٍ وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] مِنْ أُمٍّ وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ غَيْرُهَا وَأَجَابُوا أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَحُفِظَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ مَحْفُوظٍ مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ حَفِظَهُ اللَّهُ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ لَهُ
وَأَيْضًا الْمُعْتَبَرُ حِفْظُ الْحُكْمِ، وَلَوْ سَلِمَ انْتِفَاءُ قُرْآنِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ لَكَانَ سُنَّةً لِكَوْنِ الصَّحَابِيِّ رَاوِيًا لَهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَصْفِهِ لَهُ بِالْقُرْآنِيَّةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ صُدُورَهُ عَنْ لِسَانِهِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْحُجِّيَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْمَرْوِيَّ آحَادًا إذَا انْتَفَى عَنْهُ وَصْفُ الْقُرْآنِيَّةِ لَمْ يَنْتَفِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا سَلَفَ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَإِطْلَاقُ الرَّضَاعِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَقَعُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ مُقَيَّدٌ بِمَا سَلَفَ وَاحْتَجُّوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ الَّذِي سَيَأْتِي فِي بَابِ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِالرَّضَاعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَفْصِلْ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَلَا سَأَلَ عَنْ الْعَدَدِ
وَيُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمُطْلَقِ الْمَشْعُورِ بِهِ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ، فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ لِسَبْقِ الْبَيَانِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقَدْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ فَإِنْ قُلْت: حَدِيثُ «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ» يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْفَتْقَ يَحْصُلُ بِدُونِهَا قُلْت: سَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِاعْتِبَارِ الْخَمْسِ وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ» وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِهَا فَمَفْهُومُهَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ كَمَا أَنَّ مَفْهُومَ أَحَادِيثِ الْخَمْسِ أَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَيَتَعَارَضُ الْمَفْهُومَانِ وَيُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: «لَا يُحَرِّمُ إلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ» كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا مَفْهُومُ حَصْرٍ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مَفْهُومِ الْعَدَدِ وَأَيْضًا قَدْ ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ كالزَّمَخْشَرِيِّ إلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُضَارِعِيَّةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالْإِخْبَارَ

الصفحة 370