كتاب نيل الأوطار (اسم الجزء: 6)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ كَانَ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إذَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْفَاقَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَصَدِّقًا بِمَا يَبْلُغُ إلَيْهِ جُهْدُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغِنَى غِنَى النَّفْسِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» قَوْلُهُ: (الْيَدُ الْعُلْيَا) هِيَ يَدُ الْمُتَصَدِّقِ وَالْيَدُ السُّفْلَى يَدُ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، هَكَذَا فِي النِّهَايَةِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ
قَوْلُهُ: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) أَيْ بِمَنْ تَجِبُ عَلَيْك نَفَقَتُهُ قَالَ فِي الْفَتْحِ: يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ: إذَا مَانَهُمْ: أَيْ قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ قُوتٍ وَكِسْوَةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ مُطْلَقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَرِقَّاءِ وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ: (تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي) اُسْتُدِلَّ بِهِ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أُعْسِرَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ وَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا حَكَاهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَحَمَّادٍ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ يَحْيَى
وَحَكَى صَاحِبُ الْفَتْحِ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ الصَّبْرُ وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّةِ الزَّوْجِ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْقَاسِمِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا سَلَفَ مِنْ إعْلَالِهَا وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُ مِنْ كِيسِهِ بِكَسْرِ الْكَافِ: أَيْ مِنْ اسْتِنْبَاطِهِ مِنْ الْمَرْفُوعِ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الْكَافِ: أَيْ مِنْ فِطْنَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ
وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةً مِنْ التَّابِعِينَ قَالُوا: نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُطَلِّقُ فَإِذَا كَادَتْ الْعِدَّةُ تَنْقَضِي رَاجَعَ وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَدْحٌ يُوجِبُ الضَّعْفَ فَضْلًا عَنْ السُّقُوطِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا كَمَا قِيلَ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْآخَرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] قَالُوا: وَإِذَا أُعْسِرَ وَلَمْ يَجِدْ سَبَبًا يُمْكِنُهُ بِهِ تَحْصِيلُ النَّفَقَةِ فَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ
فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّا لَمْ نُكَلِّفْهُ النَّفَقَةَ حَالَ إعْسَارِهِ، بَلْ دَفَعْنَا الضَّرَرَ عَنْ امْرَأَتِهِ وَخَلَّصْنَاهَا مِنْ حِبَالِهِ لِتَكْتَسِبَ لِنَفْسِهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ «دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَاهُ حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا وَهُنَّ يَسْأَلْنَهُ النَّفَقَةَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ

الصفحة 385