كتاب قصر الأمل لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

58 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عِيسَى الطُّفَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ شُمَيْطِ بْنِ عَجْلاَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ ثَلاَثَةٌ: فَقَدْ مَضَى أَمْسُ بِمَا فِيهِ، وَغَدًا أَمَلٌ لَعَلَّكَ لاَ تُدْرِكُهُ، إِنَّكَ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ غَدٍ فَإِنَّ غَدًا يَجِيءُ بِرِزْقِ غَدٍ، إِنَّ دُونَ غَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً تُخْتَرَمُ فِيهِ أَنْفَسٌ كَثِيرَةٌ، لَعَلَّكَ الْمُخْتَرَمُ فِيهَا. كَفَى كُلَّ يَوْمٍ هَمُّهُ. ثُمَّ قَدْ حَمَلْتَ عَلَى قَلْبِكَ الضَّعِيفِ هَمَّ السِّنِينَ وَالأَزْمِنَةِ، وَهَمَّ الْغَلاَءِ وَالرَّخْصِ، وَهَمَّ الشِّتَاءِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الشِّتَاءُ.
وَهَمَّ الصَّيْفِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الصَّيْفُ، فَمَاذَا أَبْقَيْتَ مِنْ قَلْبِكَ الضَّعِيفِ لِآخِرَتِهِ؟ كُلُّ يَوْمٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجَلِكَ وَأَنْتَ لاَ تَحْزَنُ، وَكُلُّ يَوْمٍ تَسْتَوْفِي رِزْقَكَ وَأَنْتَ لاَ تَحْزَنُ , أُعْطِيتَ مَا يَكْفِيكَ فَأَنْتَ تَطْلُبُ مَا يُطْغِيكَ، لاَ بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ، وَلاَ مِنْ كَثِيرٍ تَشْبَعُ , وَكَيْفَ لاَ يَسْتَبِينُ بِعَالِمٍ جَهْلُهُ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ شُكْرِ مَا هُوَ فِيهِ، وَهُوَ مُغْتَرٌّ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ؟ أَمْ كَيْفَ يَعْمَلُ لِلآخِرَةِ مَنْ لاَ يَنْقَطِعُ مِنَ الدُّنْيَا شَهْوَتُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي مِنْهَا نَهْمَتُهُ؟ فَالْعَجَبُ كُلَّ الْعَجَبِ لِمَنْ يُصَدِّقُ بِدَارِ الْحَيَوَانِ وَهُوَ يَسْعَى لِدَارِ الْغُرُورِ.
59 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: كَانَ آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُخْطِئَ: أَمَلُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَأَجَلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ حُوِّلَ , فَجُعِلَ أَمَلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ , وَأَجَلُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ.
60 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ شُمَيْطِ بْنِ عَجْلاَنَ، يَقُولُ: قَالَ أَبِي: طَالَتْ آمَالُكُمْ، فَجَدَّدْتُمْ مَنَازِلَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَطَيَّبْتُمْ مِنْهَا مَعَايِشَكُمْ، وَتَلَذَّذْتُمْ فِيهَا بِطِيبِ الطَّعَامِ، وَلِينِ اللِّبَاسِ، كَأَنَّكُمْ لِلدُّنْيَا خُلِقْتُمْ أَوَلاَ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَوْتَ أَمَامَكُمْ؟ أَوَلاَ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ مُوَكَّلٌ بِآجَالِكُمْ، لاَ يَذْهَبُ عَنْهُ مِنَ الْمُدَّةِ شَيْءٌ؟ ثُمَّ يَقُولُ: لاَ تَكُونُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَقَلَّ شَيْءٍ بِالْمَوْتِ اكْتِرَاثًا، وَأَعْظَمَ شَيْءٍ عَنِ الْمَوْتِ غَفْلَةً، فَمَا يَنْتَظِرُ الْحَيُّ إِلاَّ الْمَوْتَ، وَمَا يَنْتَظِرُ الْمُسَافِرُ إِلاَّ الظَّعْنَ.

الصفحة 44