كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 6)

" صفحة رقم 39 "
من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال الله بينهم وبين أذاه .
ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه . وقيل : ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل ) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ إِلَى الْغَافِلُونَ ( وفي الكهف ) وَمَنْ أَظْلَمُ إِلَى إِذًا أَبَدًا ( وفي الجاثية ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ إِلَى أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه . قال القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى ) فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( ففي السيرة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً . والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول .
وقال قتادة والزجاج وجماعة ما معناه : ) جَعَلْنَا بَيْنَكَ ( فهم ما تقرأ وبينهم ) حِجَاباً ( فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار ) مَّسْتُورًا ( على موضوعه من كونه اسم مفعول أي ) مَّسْتُورًا ( عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو ) مَّسْتُورًا ( به الرسول عن رؤيتهم . ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر . وقالوا : رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي ذو هول ، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية . وقال الأخفش وجماعة ) مَّسْتُورًا ( ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن . وقيل : مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل
الإسراء : ( 46 ) وجعلنا على قلوبهم . . . . .
ومن لفظ الأول ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءاذَانِهِمْ وَقْراً ( تقدم تفسيره في أوائل الأنعام ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ). قيل : دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : ( يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم ) فولوا ونفروا فنزلت هذه الآية . والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله ، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها .
وقال الزمخشري : وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و ) وَحْدَهُ ( من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى . وما ذهب إليه من أن ) وَحْدَهُ ( مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و ) وَحْدَهُ ( عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد . وذهب يونس إلى أن ) وَحْدَهُ ( منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو .

الصفحة 39