كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 6)

فإن قلت: أي: معنى لقوله: (مِنْ بَعْدِي) بعد قوله: (خَلَفْتُمُونِي)؟ قلت: معناه: من بعد ما رأيتم مني؛ من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو: من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا: (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 128]. ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه، ونحوه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [مريم: 59] أي: من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي معنى لقوله: (من بعدي)، بعد قوله: (خلفتموني))، يريد أن الخليفة هو الذي يخلف المنوب فيما كان قائماً فيه بعد تخلفه، فلفظ (بعدي) كالتكرير.
وخلاصة الجواب أنه من باب قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ) [النحل: 26]، ومعلوم أن السقف لا يكون إلا من فوق، وفائدة ذكره تصوير حالة الخرور في الذهن وما يتصل منه إلى المخرور عليه، تهويلاً وتخويفاً، وكذلك قال: (من بعدي) تصويراً لمعنى نيابة المستخلف، ومزاولة سيرته، وسلوك هديه. ولذلك قال: "ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده".
ولما كان جل هدي الأنبياء وسمتهم، الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالعبادة بالإخلاص، والنهي عن الشرك والرذائل، قال مرة: "ما رأيتم مني من توحيد الله وإخلاص العبادة له"، وأخرى: "من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، والنهي عن عبادة البقر".
ولما كان ديدن أصحاب الأنبياء محافظة الصلوات، والاعتزال عن ملاذ الدنيا وشهواتها، استشهد بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) [مريم: 59]. فقوله:

الصفحة 586