كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 6)

قال حبيب بن ثابت: خرج ابنُ مسعود ذات يوم فاتّبعه ناسٌ، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نَمشي معك، قال: فارجعوا فإنه ذِلّةٌ للتابع، وفِتنةٌ للمَتبوع.
قال عبد الله بن مسعود: لو تعلمون ما أعلم من نَفسي لحَثيتُم على رأسي التُّراب.
قال أبو الأحوص الجُشَمي: دخلنا على ابن مسعود وعنده بَنُون له، ثلاثة غِلمان، كأنهم الدَّنانيرُ حُسْنًا، فجعلْنا نتعجَّبُ من حُسنِهم، فقال لنا: كأنكم تَغبِطوني بهم؟ ! قلنا: إي والله، بمثل هؤلاء يُغبَطُ المرءُ المسلم، فرفع رأسه إلى سقفِ بيتٍ له صغير؛ قد عَشَشَ فيه خُطَّافٌ وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأنَّ أهونَ نَفَضْتُ يَدي من تُراب قُبورِهم أحبُّ إليَّ من أن يَسقُطَ عِشقُ هذا الخُطَّاف ويَنكسرَ بيضُه.
وكان يقول: ما أُبالي إذا رجعتُ إلى أهلي على أيِّ حالٍ أَراهم؛ بسَرَّاء أم بضَرَّاء، وما أصبحتُ على حالٍ فتمنَّيتُ أني على سواها.
وكان يقول: أكرَه المكروهات الموتُ والفقرُ، والله لا أبالي بأيِّهما بُليت.
ذكر جملة من كلامه ومواعظه - رضي الله عنه -:
كان يقول: إنكم في مَمَرِّ الليل والنهار، في آجالٍ مَنقوصَة، وأعمالٍ مَحفوظَة، والموتُ يأتي بَغْتَةً؛ فمَن زرع خيرًا فيوشِك أن يَحصدَ رَغْبةً، ومَن زرع شرًّا فيوشك أن يَحصِدَ نَدامةً، ولكل زارعٍ مثل ما زرع، لا يَسبق بطيءٌ بحظِّه، ولا يُدركُ حَريصٌ ما لم يُقَدَّر له، فمَن أُعطي خيرًا فالله أعطاه، ومَن وُقِيَ شرًّا فالله وَقاه، المتَّقون سادَة، والعلماءُ قادَة، ومَجالسُهم زيادة. قال أبو الأحوص: إن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يَقوم يوم الخميس قائمًا ويقول: إنَّما هما اثنان: الهَديُ والكلام، فأفضلُ الكلامِ كلامُ الله، وأفضلُ الهَديِ هَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرُّ الأمور مُحدثاتُها، وكلُّ مُحدَثَةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، فلا يَطولَنَّ عليكم الأَمَد، ولا يُلهِيَنّكم الأمَل، فإن كل ما هو آتٍ قريبٌ، ألا وإن بعيدًا ما ليس بآتٍ، ألا وإن الشَّقي مَن شَقي في بطن أُمِّه، ألا وإن السَّعيدَ مَن وُعِظَ بغيره، ألا وإن قتال المسلم كُفر، وسبابَه فُسوق، ولا يَحِل لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاثة أيَّام حتَّى يُسَلِّم عليه إذا لَقِيَه، ويُجيبه إذا دعاه، وَيعوده إذا مَرِض، ألا وإن شَرَّ الرَّوايا [روايا] الكَذِب، ألا وإن

الصفحة 9