كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 6)
فَالتَّأْكِيدُ بِعَلَامَةٍ مَوْضُوعَةٍ كَالتَّأْكِيدِ بِالتَّكْرِيرِ. (لَعَنَّاهُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَّبْنَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: بِالْمَسْخِ. عَطَاءٌ: أَبْعَدْنَاهُمْ وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ. (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أَيْ صُلْبَةً لَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْعَلُهُ، وَالْقَاسِيَةُ وَالْعَاتِيَةُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ:" قَسِيَّةً" بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ. وَالْعَامُ الْقَسِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَطَرَ فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّاتِ أَيِ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ، فَمَعْنَى" قَسِيَّةً" عَلَى هَذَا لَيْسَتْ بِخَالِصَةِ الْإِيمَانِ، أَيْ فِيهَا نِفَاقٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ إِذَا كَانَ مَغْشُوشًا بِنُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ (مُخَفَّفُ السِّينِ مُشَدَّدُ الْيَاءِ) مِثَالُ شَقِيٍّ أَيْ زَائِفٍ، ذَكَرَ ذلك أبو عبيد وأنشد:
لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلَامِ كَمَا ... صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ «١»
يَصِفُ وَقْعَ الْمَسَاحِي «٢» فِي الْحِجَارَةِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ كَأَنَّهُ مُعَرَّبُ قَاشِي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، بَلِ الدِّرْهَمُ الْقَسِيُّ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا قَلَّتْ نَقْرَتُهُ يَقْسُو وَيَصْلُبُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:" قَسِيَةٌ" بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنٍ فَعِلَةٍ نَحْوَ عَمِيَةٍ وَشَجِيَةٍ، مِنْ قَسَى يَقْسِي لَا مِنْ قَسَا يَقْسُو. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْعَلِيَّةِ وَالْعَالِيَةِ، وَالزَّكِيَّةِ وَالزَّاكِيَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: أَوْلَى مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ قَسِيَّةً بِمَعْنَى قَاسِيَةٍ، إِلَّا أَنَّ فَعِيلَةً أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلَةٍ. فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ غَلِيظَةً نَابِيَةً عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ لِطَاعَتِي، لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُوصَفُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَوْصُوفَةً بِأَنَّ إِيمَانَهَا خَالَطَهُ كُفْرٌ، كَالدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّةِ الَّتِي خَالَطَهَا غِشٌّ. قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ قَسَوْتِ وَقَسَتْ لِدَاتِي
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُلْقُونَ ذَلِكَ إِلَى الْعَوَامِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُبَدِّلُونَ حُرُوفَهُ. وَ" يُحَرِّفُونَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ جَعَلْنَا قلوبهم قاسية محرفين.
---------------
(١). البيت لابي زيد الطائي. والصواهل (جمع الصاهلة) مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل وهو الصوت.
(٢). المساحي (جمع مسحاة): وهي المجرفة من الحديد.
الصفحة 115