كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 6)
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ:" فَافْرِقْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَعَاقَبَهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَصْلُ التِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ يَتِيهُ تِيهًا وَتَوْهًا إِذَا تَحَيَّرَ. وَتَيَّهْتُهُ وَتَوَّهْتُهُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَالْيَاءُ أَكْثَرُ. وَالْأَرْضُ التَّيْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ وَتَيْهَاءُ ومنها قال «١»:
تِيهٌ أَتَاوِيهُ عَلَى السُّقَّاطِ
وَقَالَ آخَرُ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزَنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
فَكَانُوا يَسِيرُونَ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ- قِيلَ: فِي قَدْرِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ- يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ فَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، فَكَانُوا سَيَّارَةً لَا قَرَارَ لَهُمْ. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ معهم موسى وهرون؟ فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ التِّيهَ عُقُوبَةٌ، وَكَانَتْ سِنُو «٢» التِّيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَقُوبِلُوا عَلَى كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً، وَقَدْ قَالَ:" فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ". وَقِيلَ: كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا كَمَا جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى" مُحَرَّمَةٌ" أَيْ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: حَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَكَ عَلَى النَّارِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ دُخُولَ الدَّارِ، فَهُوَ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمَ شَرْعٍ، عَنْ أكثر أهل التفسير، كما قَالَ الشَّاعِرُ:
جَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصُرِي ... إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أَيْ أَنَا فَارِسٌ فَلَا يُمْكِنُكِ صَرْعِي. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ «٣» مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فِي فَرَاسِخَ يَسِيرَةٍ فَلَا يَهْتَدُوا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا؟ فَالْجَوَابُ- قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يَكُونُ ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم
---------------
(١). هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت:
وبسطه بسعة البساط
والبساط المكان الواسع من الأرض. وقيل هذا البيت:
وبلدة بعيدة النياط ... مجهولة تغتال خطو الخاطي
(٢). في ج، سنون.
(٣). في ج: كبيرة.
الصفحة 129