كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 6)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) نَهْيٌ عَنِ الْغُلُوِّ. وَالْغُلُوُّ التَّجَاوُزُ فِي الْحَدِّ، وَمِنْهُ غَلَا السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً، وَغَلَا الرَّجُلُ فِي الْأَمْرِ غُلُوًّا، وَغَلَا بِالْجَارِيَةِ لَحْمُهَا وَعَظْمُهَا إِذَا أَسْرَعَتِ الشَّبَابَ فَجَاوَزَتْ لِدَاتِهَا «١»، وَيَعْنِي بِذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ غُلُوَّ الْيَهُودِ فِي عِيسَى حَتَّى قَذَفُوا مَرْيَمَ، وَغُلُوَّ النَّصَارَى فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ رَبًّا، فَالْإِفْرَاطُ وَالتَّقْصِيرُ كُلُّهُ سَيِّئَةٌ وَكُفْرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَوْفِ ولا تسوف حَقَّكَ كُلَّهُ ... وَصَافِحْ فَلَمْ يَسْتَوْفِ قَطُّ كَرِيمُ
وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَقَالَ آخَرُ:
عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ... نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبَا
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تُطْرُونِي «٢» كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أَيْ لا تقولوا إن له شريكا أو أبناء ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصِفَتَهُ فَقَالَ:" إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ" وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأَوْلَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا الْمَسِيحُ" الْمَسِيحُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" عِيسَى" بَدَلٌ مِنْهُ وَكَذَا" ابْنُ مَرْيَمَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَدَلَّ بِقَوْلِهِ:" عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ" عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْسُوبًا بِوَالِدَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا، وَحَقُّ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لَا مُحْدَثًا. وَيَكُونُ" رَسُولُ اللَّهِ" خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. الثَّانِيةُ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ امْرَأَةً وَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا فِي كِتَابِهِ إِلَّا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَهَا فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا لِحِكْمَةٍ ذَكَرَهَا بعض الأشياخ، فإن الملوك والاشراف
---------------
(١). اللدات (جمع لدة كعدة): الترب، وهو الذي ولد معك وتربى.
(٢). الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.

الصفحة 21