كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 6)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أَيْ لِلْجَزَاءِ، كَمَا سَبَقَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لتودن «١» الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ «٢» مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ). وَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في رواية: حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضَّحَّاكُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وفي التنزيل" وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" «٣»] التكوير: ٥] وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ برقان «٤» عن يزيد ابن الْأَصَمِّ عَنْهُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شي، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: (كُونِي ترابا) فذلك قوله تعالى:"- يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
" «٥»] النبأ: ٤٠]. وَقَالَ عَطَاءٌ: فَإِذَا رَأَوْا بَنِي آدَمَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَعِ قُلْنَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنَا مِثْلَكُمْ، فَلَا جَنَّةَ نَرْجُو وَلَا نَارَ نَخَافُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ: (كُنَّ تُرَابًا) فَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنْ يَكُونَ تراب. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: هَذَا الْحَشْرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَمَا تَخَلَّلَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ وَإِقَامَةُ حُجَجٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ عَلَى جِهَةِ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالِاعْتِنَاءِ فِيهِ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهُ، وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا فِي الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ: حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، وَلِلْحَجَرِ لِمَا رَكِبَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلِلْعُودِ لِمَا خَدَشَ الْعُودَ، قَالُوا: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِبَارِ وَالتَّهْوِيلِ، لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ لَا يُعْقَلُ خِطَابُهَا وَلَا ثَوَابُهَا وَلَا عِقَابُهَا، وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمُتَخَيِّلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْتُوهِينَ الْأَغْبِيَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَلَمَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذُوا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَلَمُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تدري فيما انتطحتا؟) قلت:
---------------
(١). لتودن (بفتح الدال المشددة) وفي بعض النسخ بضمها فالحقوق بالرفع على الأول والنصب على الثاني.
(٢). الجلحاء: التي لا قرن لها.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢٢٧ وص ١٨٦.
(٤). برقان (بالكسر والضم). (القاموس).
(٥). راجع ج ١٩ ص ٢٢٧ وص ١٨٦.

الصفحة 421