كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 6)

فصل في تنفيذ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى تُخُومِ الْبَلْقَاءِ مِنَ الشَّامِ، حَيْثُ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٌ وَابْنُ رَوَاحَةَ: فيغتزوا عَلَى تِلْكَ الْأَرَاضِي، فَخَرَجُوا إِلَى الْجُرْفِ فَخَيَّمُوا به، وكان بينهم عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَيُقَالُ: وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فاستثناه رسول الله مِنْهُمْ لِلصَّلَاةِ، فَلَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامُوا هُنَالِكَ، فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ الْخُطَبُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَنَجَمَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ، وَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إِلَى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام فِي بَلَدٍ سِوَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ جُوَاثَا مِنَ الْبَحْرَيْنِ أَوَّلَ قَرْيَةٍ أَقَامَتِ الْجُمُعَةَ بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ بِالطَّائِفِ ثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يَفِرُّوا وَلَا ارْتَدُّوا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَشَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ لِاحْتِيَاجِهِ إليه فيما هو أهم، لأن ما جُهِّزَ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، إِلَّا أَنْ يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ وَأَمَرَ الْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَكَانَ خُرُوجُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ وَالْحَالَةُ تِلْكَ، فَسَارُوا لَا يَمُرُّونَ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أُرْعِبُوا مِنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَّا وَبِهِمْ مَنَعَةٌ شَدِيدَةٌ، فقاموا أربعين يوما ويقال سبعين يوما، ثم أتوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، ثُمَّ رَجَعُوا فَجَهَّزَهُمْ حِينَئِذٍ مَعَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ لِقِتَالِ الْمُرْتَدَّةِ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ وَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لِيَتِمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ وَقَدِ ارْتَدَتِ الْعَرَبُ إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً، فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبُ عَلَى مَا ترى قد انتقصت بِكَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَرِّقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخْطَفُنِي لَأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لَأَنْفَذْتُهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق، والله لقد نزل بى مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا، وَصَارَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الصفحة 304